الإنسان المذهول – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

“عن الكائن الذي رأى كل شيء، وفَقَد كل شيء”.

كنتُ في حديقة هادئة، والشمس تنثر خيوطها الذهبية على فسيفساء العشب، حين وقعت عيناي على طفلٍ لا يجاوز الرابعة في عمره، يجلس بين أحضان الطبيعة، لكنه لم يكن يراها، كان حوله عالمٌ من الجمال: شجرةٌ تتدلّى أغصانها كأنها تسرد عليه الحكايات، وعصفورٌ يقفز قرب قدمه كأنه يعرض الصداقة، لكنه كان غارقًا في شاشةٍ صغيرة، كان الطفل مستغرقًا في لعبة ضوئية، تتبدّل ألوانها بسرعة، وتخطف منه نبض الدهشة، شيئًا فشيئًا، حتى بدا في ملامحه فتورٌ سابق لعمره، كأن الحياة قد قُدّمت له دفعةً واحدة، فتراجع عقله الطري عن شغف السؤال، وهدأت فطرته عن حيوية الاكتشاف. وتذكرت أن الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش قال يوماً أن التليفزيون حل محل الأدب والتفكير، وبالتالي استطاع أن يقلص النشاط الفكري، إنه يقدم حلولاً جاهزة لجميع مشكلات الحياة.”

تأملت هذا الطفل، ثم تأملتُ العالم، فانبثقت في داخلي هذه الحروف: أن هذا المشهد يُجسّد أزمة هذا العصر؛ عالمٌ يُطوّق الطفل من نعومة وعيه، ليُعيد صبغه بلون المفاهيم الجديدة، فيُربّى على كثافة الصورة لا عمق الفكرة، على دقّة الأداء لا سكينة المعنى، على دَورٍ مرسوم لا ذاتٍ تبحث عن غايتها، وهنا، تلمّست الحاجة العميقة لإعادة تفعيل الوحي في حياة الإنسان، ليرى الأشياء لا كما تُعرض عليه، بل كما أرادها الله أن تُرى: بعين القلب، وبميزان الفطرة، وبنور الوحي.

في لحظةٍ من الغفلة التاريخية، استيقظت البشرية على صرير حضارةٍ غربيةٍ تُحسن الصياغة في مواطن، لكنها تُفسد المعنى، حضارةٌ تجيد نحت القيم في قوالب مشرقة، لكنها تزرع خلف الواجهات الملساء مفاهيم جوفاء، تُرَسِّخ الفردانية، وتُؤَسْطِرُ الشهوة، وتُقَنِّن الانفصال عن السماء تحت شعارات الحقوق والحريات، حضارة تُسوّق الإنسان كمرجعٍ نهائي، وتنزع القداسة عن الوحي، وتُلقي في روع الجماهير أن ما يُسمى بـ”الرأي العام” هو المعيار الأعلى للحق والباطل، وكما قال توماس كارليل: “الرأي العام أكبر كذبة في تاريخ العالم”؛ لأن هذا “الرأي” لم يكن يومًا ابن الحقيقة، بل هو نتاج هندسة إعلامية، وصدى لما يُراد للجماهير أن تراه، لا ما ينبغي أن يُبصِروه.

والحقيقة التي لا تخطئها البصائر: أن الإنسان، حين ينفصل عن وحي السماء، لا يصنع إلا نسخةً مشوّهة من الفضيلة، مهما زُيّنت بألفاظ القانون، ومهما صيغت في أرقى قوالب الحداثة، أؤمن أن الحضارة الغربية اليوم تُراكم أدوات، لا قيمًا؛ تُنتج عجلة، لا معنى؛ وتقدّم الإنسان كآلةٍ يُغذّى بالرغبة، ويُقاس بالمنفعة، ويُساق بلا مبدأ، فكلّما ارتفعت الأبراج، تسافل الإنسان؛ وكلّما انفتحت أبواب الاستهلاك، انغلق باب السكينة.

الإنسان المذهول لا يفتقر إلى المعلومة، بل يفتقر إلى مرجعية تصوغ له موقعها ووظيفتها. مشكلته ليست في الجهل الخالص، بل في امتلاءٍ مضطرب بالمعرفة؛ معرفة بلا ترتيب، وبلا معيار، ولقد صار العقل الحديث مستودعًا مفتوحًا، يستقبل كل شيء، لكنه لا يحاكم شيئًا. يقرأ ويشاهد ويستمع، لكنه لا يسأل: ما المصدر؟ ما المنطلق؟ ما المعيار الذي أزن به هذه المعطيات؟ وهنا تظهر أزمة الوعي الزائف؛ إذ تُختزل النجاة في كثافة الاطلاع، ويُستغنى عن سلطان الوحي بوهم الاستقلال العقلي، بينما يظل الوحي هو المصدر الوحيد القادر على فرز الغث من السمين، وإعادة تشكيل الإنسان في ضوء تصورٍ نقي عن الله، والإنسان، والغاية.

وقد أفدتُ هذا المحور من العقلية الذكية للأستاذ سامي الحربي، من دفتر قراءاته، التي التقطت جذور الأزمة من مواضعها، وحاولت ربط بين هشاشة الإنسان الحديث وانهيار مرجعيته المعيارية، فالذهول الحقيقي ليس في أن يرى الإنسان كل شيء، بل في أن يفقد المعيار الذي يُبصر به كل شيء. يقول ابن القيم رحمه الله: “فالإنسان كما وصفه به خالقه – ظلوم جهول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.”  (الفوائد- 133) .

ومن هنا تتحدّد قيمة الإنسان في المنظومة التي تمنحه إطارًا ثابتًا لمعاني الخير والشر، للواجب والموقف، للسؤال والغاية. وحين تضعف هذه المنظومة، يتفلّت الوعي وتذوب الهوية. وقد أشار ألفين توفلر إلى أن المحور الأخطر في أي معيار إنساني هو الانتماء لجماعة تستحق الاحترام، من الأسرة إلى الجماعة الدينية؛ فهاتان الحاضنتان هما السياج الأعمق لحفظ القيمة وضبط الانحراف. ولكن حين يصبح الفرد هو المشرّع لنفسه، وذوقه هو الحكم الأعلى، ينفلت كل شيء، ويتحول الإنسان إلى مستهلك يُشكّل ذاته بما يتناسب مع السوق لا مع الفطرة.

ولهذا وصف طه عبد الرحمن هذه الحالة بأنها وثنية جديدة، ليست تعددًا في الآلهة فحسب، بل تعددًا في القيم، يُنتقي منها ما يوافق المصلحة اللحظية، بلا أصل مرجعي ناظم. ووصف جاك رانسيير الإنسان الحديث بـ”المستهلك النرجسي”، الذي يصوغ أفكاره كما ينتقي مشترياته: متعة، تنويع، قابلية للتبديل. وفي هذا الجو، لم يعُد الدين وحيًا هاديًا، بل خيارًا ضمن قائمة اختيارات مؤقتة، هذه السيولة لا تقف عند حدود الفكر، بل تمتد إلى الجسد، إلى الهوية البيولوجية. فكما يقول مايكل هارتنحن نعيش زمن “خصخصة الباطن”، حيث يُعاد تشكيل الإنسان على مستوى الذكورة والأنوثة، والعقيدة والانتماء، ليُقدَّم منتَجًا في خدمة السوق لا مرآةً للخلق الإلهي. ويُهمَّش الإنسان المستقيم لأنه لا يُدرّ ربحًا، ولا يُنتج سوقًا.

وفي ظل هذا الانقلاب الشامل، تذوب الأسئلة الكبرى: من أنا؟ لماذا وُلدت؟ إلى أين المصير؟ ويُستبدل بها سؤال آخر أكثر توحشًا: ماذا أستهلك؟ وماذا أُجرّب؟ وكما قال لوك فيري: “تُختزل الأسئلة العميقة في إجابات قصيرة”، لا تُشفي الروح، ولا تبني إنسانًا.

فمهما أُلبست هذه الحضارة من حُلَل البيان، ومهما توسّلت بالمؤسسات والمنظمات والمواثيق، فإن جوهرها يظلّ مأزومًا؛ لأنها ببساطة قامت على الإعراض، وانطلقت من منطلق “الإنسان مركز الوجود”، لا “الله ربّ العالمين”. ونحن أمام موجة مفاهيمية لا يكفي فيها الردّ الجزئي ولا الاجتهاد التجميلي، بل لا بدّ من يقظةٍ قرآنية، تنقض الباطن لا الظاهر، وتعيد الوحي إلى موضعه الصحيح: مصدرًا أعلى للهداية، ومُحرّكًا أول لبناء الوعي والإنسان.

أُوقن أن الحضارة الغربية مريضة، وأنها لا تعاني من نقصٍ في المعلومة، بل من فقدان المرجعية المعصومة، تعرف كيف تحكم على الجسد، لكنها عاجزة عن فهم بكاء الروح، تُشرّع لكل شهوة، لكنها تتلعثم أمام معنى “الطهارة”، وتستخفّ بقيمة “الحياء”، و تتخبط في تعريف “الحق” ولا تميز بين الذكر و الأنثى. فليست الأزمة في انعدام الإيمان، بل في انكماشه؛ حين يُختزل الدين إلى طقوس تؤدّى، لا تصورات تُبنى، ويُحشر في زوايا الشعائر بدل أن يكون هو النور الذي يُبصر به العالم. صار التدين عند كثيرين نافذة جانبية يفتحونها في أوقات الفراغ الروحي، لا منظارًا يؤسّسون به وعيهم، ويهتدون به في مدارات الحياة. وهذا الانفصال بين التدين والوعي هو من أخطر صور الذهول؛ لأن المسلم يُصلّي بين يدي ربه، ثم يُسلّم عقله وسلوكه لتصوراتٍ لا تنتمي إلى الوحي، فيعيش انشطارًا داخليًا مرهقًا، يقف خاشعًا في المحراب، ثم ينحني للعُرف والسوق في ساحة الاختيارات.

وهكذا يعمل القرآن؛ لا بوصفه كتاب تلاوة فحسب، بل بوصفه أداة استنهاض كبرى للوعي، وركيزة مفاهيمية تعيد ترتيب تصوّرات الوجود من الجذور، وفعل القرآن لا يتجه إلى ظاهر الحياة، بل ينفذ إلى أعماق التصوّر، يحرّك الفطرة الخامدة، ويستنهض الإنسان من موته المعنوي كما قال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} . في عالمنا لا يزال الخلل في البوصلة: ما الإنسان؟ ما غايته؟ ما الخير وما الشر؟ فليست وظيفة الوحي أن يُجمّل الواقع، بل أن يكشف زيفه، ويعيد هندسته على ضوء الكلمة الربانية، وهو المصباح الرباني الذي يبدد عتمة التردد، فإذا اضطربت التصورات وتشعّبت المسالك، مدّ القرآن خيوط النور ليرشد العقل إلى مقصده، ويضبط الفطرة في معراجها نحو العبودية.

ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلّم في لحظة غرق البشرية في “التيه المفاهيمي”، وكانت أولى مهماته هي إعادة تعريف الإنسان، وإيقاظ القلب، وربط العالم بخالقه، حتى صارت كلمةٌ واحدة منه تحيي أمّة، وصار المنبر الذي يُعلّم فيه الناس هو بوصلة العالم، وموضع التداوي من علل الفكر والروح، العالم اليوم ليس في حاجة إلى فلسفات جديدة، بل هو في حاجة إلى شفاء، شفاء من الغربة عن خالقه، شفاء من اضطراب المعيار، شفاء من حمى التسويغ، العالم اليوم مريضٌ بغياب الوحي، معافى حين يُفعّل الخطاب المحمدي من جديد، وكلامه صلى الله عليه وسلّم ليس حزمة أحكام جامدة، بل هو علمٌ فيه حياة، ونورٌ يكشف الدروب، ودواءٌ يُعاد به بناء الإنسان من الداخل، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57].

وهكذا، لم يكن ذاك الطفل الجالس في الحديقة مشهدًا بريئًا، بل كان تجليًا ناعمًا لانكسارٍ صامتٍ يَعُمّ وجدان الإنسان المعاصر، جلس بين أطياف الجمال، فلم يره، كما وقفنا نحن طويلاً في صخب الحياة، ولم نعد نُبصر. عينه مشدودة إلى شاشة، وقلوبنا مشدودة إلى الدنيا.

هو غاب عن اللحظة، ونحن غبنا عن الغاية. وبين دهشته الملوّنة وركضنا المتوتر، تتكشّف ملامح الإنسان المذهول: ذلك الكائن الذي رأى كل شيء… وفَقَد كل شيء. ليست المأساة في وفرة الأدوات، بل في غياب البوصلة، وليست العلّة في فقرٍ معرفي، بل في انقطاع الصلة بالنور الأول؛ نور الوحي، الذي يأخذ بيد الإنسان من عبث الصورة إلى موطن الطمأنينة: سكينة المعنى تحت سلطان الله عزوجل.

اللهم أعنّا على تدارس كتابك، وفهم سنة نبيّك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا صدق الاتّباع، وهمة البلاغ، ووضوح الرؤية في زمنٍ التبست فيه المرايا، وتكاثرت فيه النسخ، وقل فيه الأصل.

______________________________________
الكاتب: 
نشرة توّاق البريدية


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

من قال ١٠ مرات بعد صلاة الصبح والمغرب:لا إله إلا الله، وحده….

كل الأحاديث الصحيحة فثواب من قال ١٠ مرات بعد صلاة الصبح والمغرب:  «لا إله إلا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *