منذ حوالي ساعة
فاملك رضاك، تمتلك سعادتك، واغرس في قلبك الأمل، يثمر فيك البهجة، وامشِ في الأرض رحيمًا متفائلًا قانعًا بما قسم الله لك، تكن وإن قلّ حظك من الدنيا أسعد أهلها.
السعادة ليست كنزًا مخبوءًا في قاع البحار، ولا جوهرة مكنونة في خزائن الأثرياء، ولا غاية تُنال بكثرة المتاع وتزاحم المظاهر؛ بل هي شعور خفيٌّ يسري في النفس كما تسري الروح في الجسد، لا يُدرك إلا بالإحساس، ولا يُستجلب إلا بالقناعة والرضا.
كم من إنسان تفيض خزائنه بالمال، ويمتد سلطانه في الأرض، وتحفّه مظاهر المجد، ثم هو مع ذلك شقيٌّ منكود!
وكم من آخر لا يملك من الدنيا إلا قوت يومه، ولا يتوسّد إلا أملًا رقيقًا، ولا يتوسّل في الحياة إلا قلبًا رضِيًّا، ومع هذا هو أسعد الناس!
ذلك لأن السعادة لا تكمن في كثرة الممتلكات، ولا في التفاخر بالمظاهر الزائلة، ولكن في التحرر من رقّ الحاجة إليها.
وقف سقراط، حكيم الفلاسفة، أمام متجرٍ عامرٍ بأنواع السلع، فنظر مليًّا، ثم قال كلمته الخالدة: “ما أكثر الأشياء التي لا أحتاج إليها!
كلمة صغيرة، ولكنها تفيض حكمة، وتحمل في طياتها فلسفة عميقة، جعلها فلاسفة الإغريق شعارًا لهم، لأنها تعكس جوهر السعادة: *وأنها بالاكتفاء، لا بالامتلاك؛ وبالرضا، لا بالتطلّع؛ وبالزهد، لا بالشره والاستشراف.*
إن السعادة ليست غاية بعيدة لا تُنال، ولا أملًا مستحيلًا لا يُدرك؛ بل هي في متناول كل من شاء، إذا عرف كيف يقنع، وكيف يرضى، وكيف يغضّ بصره عن زينة الحياة وزخارفها، فلا يمدّ عينه إلى ما متّع الله به غيره، ولا يقيس نصيبه في الدنيا بنصيب الناس.
والسعادة لها مذاق في كل مرحلة من مراحل الحياة: فأنت شابٌ، ما دام قلبك موصولًا بالأمل، وروحك مشتعلة بالحماسة، وعينك لا تزال تبصر النور في نهاية الطريق، ولو كنت في السبعين! وأنت شيخ، مهما كنت في مقتبل العمر، إذا فقدت الأمل، وخمدت فيك جذوة الحياة، وأعرضت عن نور الرجاء.
فالشباب شباب الروح، والكهولة كهولة القلب، وما العمر إلا صفحات نكتبها بمشاعرنا لا بأرقامنا.
ومن تمام السعادة أن نتشارك فيها مع غيرنا، وأن لا نجعلها حِجرًا محجورًا على أنفسنا، فإن من أعظم صور السعادة: أن ترى أثر ابتسامتك على وجه يتيم، أو دفءَ يدك في يد محتاج، أو نورًا تسريه في صدرٍ أظلمته الهموم، وجميل بك أن لا تنسى من حولك حين تطلب سعادتك، وأن لا تغفل عن حقوق الآخرين وأنت تطلب حقوقك
والعجيب أن السعادة تُقبل على من يتسامى عنها، وينشغل عنها بمعاني الحياة، ولا يكثر من سؤال نفسه هل أنا سعيد أم لا؟ قال الرافعي: “وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها، والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها، حين لا يبحث عنها ويذهب باحثًا عن حقيقة الحياة.”
وأصدق الناس سعادة من امتلأ قلبه بالإيمان بالله، والمعرفة به، واطمأنَّ لقضاء الله، ورضي بما قُسم له، وسعى في دنياه سعي العاقل، لا سعي المرهق اللاهث.
ألا وإن من أعظم أسباب الشقاء: أن يجمع المرء بين ضعف القدرات، وشطط الطموحات، فيعذب نفسه برغبات لا يبلغها، ويجرّعها كؤوس الحسرة على ما لم يخلق له.
فاملك رضاك، تمتلك سعادتك، واغرس في قلبك الأمل، يثمر فيك البهجة، وامشِ في الأرض رحيمًا متفائلًا قانعًا بما قسم الله لك، تكن وإن قلّ حظك من الدنيا أسعد أهلها.
Source link