منذ حوالي ساعة
إن تصور الإسلام للتربية باعتبارها منطلق التغيير الحضاري، واللبنة الأساس في مشروع إعداد الفرد المسلم المؤهل للنهوض بأعباء الإنابة والاستخلاف
إن تصور الإسلام للتربية باعتبارها منطلق التغيير الحضاري، واللبنة الأساس في مشروع إعداد الفرد المسلم المؤهل للنهوض بأعباء الإنابة والاستخلاف، تصور كامل ومتوازن يضمن حرية الفرد في التصرف والفعل، مع استحضار جملة من الضوابط التي تحول دون مساس هذه الحرية بالمقاصد الشرعية التي يروم الدين الاسلامي صونها وحفظها.
ومن خصائص هذا التصور أنه منح عملية التعلم بُعدا تعبديا، حين أضفى عليها المشرع طابع الإلزام: “العلم فريضة على كل مسلم”، وقرن فيها بين التعلم وبين تحصيل الأجر والثواب الأخروي “من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا الى الجنة“.
ولأن الأصل في الدين اليسر والبعد عن الغلو، فقد وردت في الشرع الإسلامي جملة من الآيات والأحاديث التي تحث على الرفق والحنو، وتنبذ العنف والتعنت والشدة، كقوله تعالى {{وما أرسلناك الا رحمة للعالمين}} -الأنبياء:107-وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف). فأرست بذلك قاعدة تربوية جليلة، دأب المربون المسلمون الأوائل على استحضارها ضمن اجتهاداتهم ومقترحاتهم التربوية.
ولأن بعض النفوس لا تنقاد بالرفق واللين، فقد حرص الشارع الحكيم على إرساء آلية للزجر، تحول دون الانحراف عن الجادة واستفحال بذرة الشر. لذا نجد القرآن الكريم والسنة النبوية متضمنين لأشكال من العقوبات سمتها التدرج، وغايتها التهذيب والإصلاح، لا الردع والانتقام.
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: “والعقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهي رحمة من الله بعباده، ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى: (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين). فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه”.
لكن لا ينبغي أن يُفهم من تشريع العقاب في ميدان التربية أنه أسلوب تعليمي، يتخذ من الشدة والقسوة ديدنا في التعليم والتلقين، بل هو ضرورة يُلجأ اليها عند استنفاد أساليب الترغيب والترهيب، وتُقدر بقدرها. لذا أجمع علماء التربية في الاسلام على مراعاة التدرج في العقاب، بدءا بالنصح والإرشاد، ثم الهجر والتأنيب على انفراد، ثم التقريع على رؤوس الأشهاد، وانتهاء بالضرب الذي ينبغي أن يكن معتدلا غير موجع ولا مبرح، ويُتجنب فيه الوجه والصدر والبطن، وتكون العصا رطبة لينة. ولا يُجاوز بالأدب ثلاث ضربات إلا بموافقة ولي الأمر. يقول ابن سحنون في رسالته الشهيرة (آداب المعلمين): “ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يجاوز بالأدب ثلاثا إلا أن يأذن الأب في اكثر من ذلك إذا آذى أحدا، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالادب عشرة. وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثا”.
أما الفقيه القيرواني أبو الحسن القابسي في رسالته المفصلة لأحوال المعلمين والمتعلمين، فينهى عن الضرب ساعة الغضب، ويوجب استشارة الأب:” كما ينبغي لمعلم الأطفال ان يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم، ليس لمعلمهم في ذلك شفاء من غضبه، ولا شيء يريح قلبه من غيظه؛ فإن أصابه فإنما ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه وهذا ليس من العدل. فإن اكتسب الصبي جُرما من أذى ولعب، وهروب من الكتاب وإدمان للبطالة، فينبغي للمعلم أن يستشير أباه أو وصيه إن كان يتيما، ويعلمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث”
و إذا كان التصور “الفقهي” للعقاب التربوي يستلهم دواعيه من الهدي النبوي، ويشترط التدرج في تقويم سلوك المتعلم من اللين الى الشدة، حتى يكون الضرب بمثابة الكي الذي هو آخر العلاج، فإن ابن خلدون ،الذي أدرك بنباهة فذة تلك الصلة الوثيقة بين ازدهار صنعة التعليم وزيادة الناتج الحضاري، يعلن رفضه للأساليب التربوية القائمة على الشدة والعسف، ويعدها مسؤولة عن شيوع الانحراف الخلقي الذي يتسبب في خراب العمران. يقول في مقدمته الشهيرة:” ومن كان مرباه بالعسف أو القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، حمله القهر على الكذب و الخبث، وذلك يضيق على النفس في انبساطها؛ ففي القهر مدعاة للكسل، وفيه حمل على الكذب والخبث، والتظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه”
ويبدو الموقف الخلدوني منسجما الى حد كبير مع النقلة النوعية التي عرفها الفكر التربوي الإسلامي، والمتمثلة في الحد من غلبة النزعة الفقهية بادراج جملة من العلوم “الدنيوية” الكفيلة باعداد الفرد المسلم المؤهل للبناء الحضاري وتحقيق العمران.
إن استعراض الآراء التربوية لابن خلدون، يُبين العقاب كتصرف تربوي قد جاوز حد الاعتدال، وأصبح أسلوبا تعليميا يُداري من خلاله “المربون” جهلهم بفنون وقواعد صنعة التعليم، كما حددها رائد الاجتماع البشري!
من خلال ما ذُكر يتضح الخلط الشنيع لدى أنصار التربية الحديثة بين التصور الإسلامي للعقاب التربوي، وبين الأسلوب التعليمي السائد في مؤسسات التربية التقليدية (الكتاتيب تحديدا)، كما يبدو التحامل واضحا على المنهج التربوي الاسلامي الذي هيأ للأمة اسباب النهوض بتأسيسه للمنهج العلمي التجريبي الذي انبنى عليه التقدم المعاصر كله.
هذا الانحراف في الفهم هو الذي قاد الفقيه والمربي المعاصر الشيخ يوسف القرضاوي إلى إعادة النظر في التبرير الديني لاستخدام الضرب في التعليم، حين أعلن في كتابه (الرسول والعلم) أن الضرب في الأصل ينبغي أن يُمنع لأنه ينافي الرفق؛ وقدوتنا في ذلك معلمنا الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه خادمه أنه صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده شيئا قط، لا امرأة ولا خادما ولا دابة. ولم يشرع الإسلام ضرب الصغار إلا في موضع واحد جاء به في الحديث في تعويد الأبناء الصلاة قبل البلوغ، حتى يشبوا على أدائها.
خلصت الاتجاهات التربوية والنفسية الحديثة إلى تأكيد موقف الاسلام في اعتبار العقاب أقل الأساليب فعالية في التعليم، إلا أن منها من بالغ في النفور من العقوبة، واعتبرها سمة حيوانية لا تليق بالوظيفة الانسانية للتربية! فكان الجيل الذي أريد له أن يتربى وفق هذا التصور جيلا مفككا ومتميعا ومنحلا.
ومنها من دعا إلى الحفاظ على قدر من الحزم، حين لا تفلح وسائل الترغيب. وقيّد العقوبة بشروط مستلهمة من التصور الإسلامي، كمعايير عالم النفس دانييل لومبير.
إن العقاب في الفكر التربوي الاسلامي عملية تقويمية للطباع والأخلاق والسلوك؛ تروم تحقيق تعامل نموذجي للفرد في علاقته بخالقه وبالكون والإنسان. لذا فإن استحضار البعد التربوي لهذا المبدأ في العملية التعليمية، رهين بسلامة العلاقة التربوية بين المدرس والتلميذ؛ سلامة تقتضي التخلص من جملة الإكراهات التي تتحمل مسؤوليتها الأنظمة التربوية ببلداننا، وفي مقدمتها الحرص على استيراد النموذج الغربي بكل أدواته وتوابعه الحضارية، والتي لم تخلف في بلدانها الأصلية غير الشك والارتياب، والفوضى والاغتراب، وتردي القيم!
Source link