في فنّ إظهار الامتنان بعد الهداية والغُفران، قال موسى عليه السلام:{ربِّ بِما أَنعمتَ عَليَّ فلَن أَكُونَ ظَهيرًا للمُجرِمِين}.
في فنّ إظهار الامتنان بعد الهداية والغُفران، قال موسى عليه السلام:
{ربِّ بِما أَنعمتَ عَليَّ فلَن أَكُونَ ظَهيرًا للمُجرِمِين}
وقد ذهب المفسّرون إلى أنّ هذه الصيغة تحتمل عدّة أوجُه، كأن تكونَ خَبَرًا وأن تكونَ دُعاءً أو قَسَمًا.. أي فلا أكونُ بعدَ هذا ظهيرًا للمُجرِمين، أي مُعينًا لمُجرِم أو كافر أو لفاجر، أو فلا تجعلني يا ربّ ظهيرا للمجرمين!
ولقد تأمّلت هذه الصيغة البديعة، من مَنحَى سلوكيّ وسيكولوجيّ، ووجّدتها غاية في الحِكمة، الحِكمة بمعناها العَمَليّ، بما هُو ممكن، بالوَعد المُمكن ووضوح الرؤيا والأهداف المعقولة.
المُبهِر في هذه الصيغة عندي، هي مُؤدّاها العمليّ، فالإنسان والمُؤمن قد يلتبس عليه طريق الحقّ، قد تلتبس عليه الطُرُق، قد لا يعرف أيّ المشاريع الإصلاحية هي الأصدق، وقد لا يعرِف أيّ المُفكّرين والدُّعاة هُم الأكثر إخلاصًا وصوابًا، قد لا يعرف إن كان الموقف الذي يتبنّاه هو الموقف الصحيح أو الأصحّ.
لكنّ المؤمن حقًّا بإمكانه على الداوم أن لا يصطفّ في صفّ مُفكّر أو داعية أو حاكم أو حركة تورّطت بالإجرام والإفساد أو تلطّخت أيديها بالدماء.
هذا مستوى معقول من الوَعي، لا يتطلّب منك أن تكونَ عالِمًا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في علم العمران ونهوض الأمم أو انحسارها، كلّ ما يتطلّبه الأمر، أن تتجنّب المُرافَعة عن مُجرِم، أن تنأى بنفسك عن تأييد باطل، وأن لا تقف إلى جانب شخصٍ ظالم.
ومَكمَن الحكمة، في هذا أنّك تستطيع أن تبني وعودك الشخصية على (ما يُمكِن فعله) بدل من التورّط بإلزام نفسك بـ (ما لا يُمكِن فعله).
ومنهج التفكير هذا معروف في علم النفس، وفي العلوم السلوكية التي تبحث آليات اتّخاذ القرار، وقد أشار الباحثون إلى أنّ واحدة من المنهجيات العقلانية لاتّخاذ القرار، هي أن تبدأ بإقصاء الخيارات غير المرغوب بها، وهي نظرية تُسمّى في علم النفس بـ:
Elimination by Aspects Theory (EBA)
نظرية الإقصاء بحسب الجوانب
وحين تُدرِك هذا سيتوارد إلى ذهنك طيف عريض من الأمثلة والشواهد، ومنها مثلًا أنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام في رحلته نحو التوحيد، أخذ يتأمّل أجرام السماء، وكان يُقصي الخيارات المُحتَمَلة بناءً على سماتها غير المرغوبة (كالأفول، والغياب، وضآلة الحجم) أمّا الإله جلّ في عُلاه فـ هو (حيٌّ قيّوم) (وسعَ كُرسيّه السماوات والأرض) (لا تأخذه سِنًةٌ ولا نوم) ووفق معايير بدهية لما ينبغي أن يكون عليه الإله استطاع على الأقلّ أن يُقصي طيف كبير من الاحتمالات الخاطئة.
وثمّة تطبيقات سلوكية بهذا المَعنى على مستوى حياتِك اليومية، فـ أحيانًا لا تملك ترف أن تعرِف (ماذا تُريد) لكنّك دومًا تستطيع أن تعرف (ما لا تُريد)
هذا يشمل أبسط الأشياء بدءًا من قائمة الأطعمة، واختيارك لطعام اليوم، حين لا تعرف ما تريده، ابدأ بتحديد ما لا تُريده! وفي هذه الحالة أنتَ لا تقوم بالاختيار بناءً على ما تشتهيه، ولكن بناءً على ما ترفضه بالأساس، وهي قاعدة معيارية جيّدة إن أطلتَ النظرَ فيها.
وإن كان المثال السابق تافه في سياق الانتماء إلى الحقّ، والحِياد عن الباطل، وفي أن تحرص على الدوام ألّا تكون أنتَ والمُجرمين في خندقٍ واحِد! فإنّ هذا المنهج السلوكيّ، على مستوى التدّين يظلّ أكثر سلامة من كثير من أنماط التدّين السائدة.
وقد رأيتُ قبل فترة مقطعًا يسأل المُصوّر فيه صيّادًا مصريًا غاية في الّلطف: ما هو أكثر شيء أنتَ فخور به حيال نفسك؟
فأجاب: أكثر حاجة فخور فيها، إنّ عُمري ما تمنّيت لحدّ حاجة وِحشة!
هذه إجابة غاية في الّلطف، وهي منهج سلوكيّ معروف في الانضباط الأخلاقي يطلقون عليه Via Negativa وهو منهج اتّخاذ القرارات الصحيحة، عن طريق التركيز على تجنّب القرارات الخاطئة.
يتّسق هذا مع قاعدة معروفة في علم نفس اتّخاذ القرارات:
أحيانًا كُلّ ما عليك فعله كي تعيش حياة مليئة بالقرارات الصحيحة، هو فقط أن تتجنّب القرارات الخاطئة
To Make Good Decisions, Avoid Bad Ones
وثمّة أمثلة عديدة من التوصيات النبوية التي يكتفي فيها الرسول صلّى الله عليه وسلّم بتوصية الصحابة بألّا يفعلوا فعلًا مذمومًا ما بعينه، وأبرزها وصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأبي هُريرة: اتّق المحارِم.. تكُن أعبدَ النّاس!
وأذكر أنّي قرأت مقولة لأحد علماء السلوك المتخصّصين بعلم نفس العادات، وقال ما مفاده: سيُدهَش النّاس، لو عرفوا حجم التغييرات الضخمة التي ستحصل لهم، لمُجرّد تخلّصهم من العادات السيّئة في حياتهم.
هذه المنهجية للتفكير هامّة للغاية، في عصر يبحث النّاس فيه عن المزيد من النصائح والمزيد من المعارف والمزيد من الخُطط والحِميات الغذائية، والمزيد من الإرشادات حول من أين يبدؤون، وغالب الظنّ وبحسب دراسات وأبحاث عديدة:
أنتَ لا تحتاج لإضافة شيء، أنتَ تحتاج للتخلّص من الكثير من العادات السيئة والتخفّف من آثام اعتراكك اليوميّ مع الحياة..
باختصار أنتَ تحتاج للزكاة، لأن تُزكّي وقتك وأن تُزكّي نفسك!
Source link