منذ حوالي ساعة
من صنيعِ الكُبراء، وأفعالِ الكرماء، ومذاهبِ النبلاء الأذكياء، وعوائدِ أهلِ الدينِ والعقل: محاسبةُ النفسِ، والتدقيقُ عليها، وإنصافُ الآخرينَ منها، في كبيرِ الأمرِ وصغيرِه.
من صنيعِ الكُبراء، وأفعالِ الكرماء، ومذاهبِ النبلاء الأذكياء، وعوائدِ أهلِ الدينِ والعقل: محاسبةُ النفسِ، والتدقيقُ عليها، وإنصافُ الآخرينَ منها، في كبيرِ الأمرِ وصغيرِه.
وفي المقابل، فمن صنيعِهم العفوُ عن الآخرين، والتجاوزُ عن زلاتِهم، والتغافلُ عن هفواتِهم، والإعراضُ عمّا يحسن من صنيعِهم، وتركُ الاستقصاءِ في أخذِ الحقوق؛ فإنّ ذلك عنوانُ سُموِّ النفسِ وصفائها، ونضجِ العقلِ وتمامِه، ومظهرُ التحلِّي بالحكمة، وحُسنِ التدبير، والترفّعِ عن صغارِ الأمورِ وسفاسفِها. كما أنه أدخلُ في خصالِ المروءةِ وصنائعِ الإحسان، وأحفظُ للودِّ، وأبعدُ عن العداوةِ والمنازعةِ والأحقاد، وأصونُ للنفس، وأحفظُ للعمر. وهو ممّا يُرضي الرب، ويزرعُ القبولَ للمرء، ويُعلي المكانة، ومتى رُزقه المرء، فلا تسل عن راحةِ قلبِه وسرورِه، وهدوءِ بالِه، وانشراحِ صدرِه.
وقد جاءت النصوصُ حاثّةً على هذا المسلكِ السامي من التعامل، ومن ذلك قولُه تعالى:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
فإنّ فيها أمرًا بسلوكِ سبيلِ العفوِ والصفحِ في التعاملِ مع الخلق، وحثًّا على التجاوزِ عن تقصيرِهم، وغضِّ الطرفِ عن نقصِهم وتجاوزِهم، والعناية بما يجمعُ النفوسَ وتنشرحُ له الصدور، مع مقابلةِ الجاهلِ بالصبرِ عليه والإعراضِ عنه، (وعدمُ مقابلتِه بجهلِه، فمن آذاك بقولِه أو فعلِه لا تُؤذه، ومن حرمَك لا تَحرِمه، ومن قطعَك فَصِلْه، ومن ظلمَك فاعدِل فيه، وأحسنْ إليه).
وهو من خُلُقِ مقدَّمِ الخليقةِ وصنيعِ سيّدِها، فإنّه ﷺ حين استودعَ بعضَ أزواجِه سرًّا من أسرارِه، فما مكثت حتى أذاعتْه لبعضِ صويحباتِها، فأنزلَ اللهُ عليه جبريلَ عليه السلام ليُخبرَه بما وقع؛ فما عنّف ولا زجر، ولكن عرّفَها بعلمِه ببعضِ ما أذاعت، وأعرضَ عن ذكرِ بعضِه لها صفحًا وإغضاءً وكرمَ نفسٍ، حتى كأنّه لا يدري؛ ليُشعرَها بلطفٍ أنّ اللهَ لا يخفى عليه ما فعلتْ إذ خالفتْ أمرَه، وأنّ عليها مراقبةَ اللهِ في ذلك، وفي ذلك يقول تعالى:
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}.
وهو ممّا تواصى به الحكماء، وحثّ على مسلكه العظماء:
فهذا الصدّيقُ الأكبر يقول:
“من امتطى زمامَ التغافل، ملكَ زمامَ المروءة.”
وقال عليٌّ رضي الله عنه:
“من لم يتغافل، تنغّصت عيشتُه.”
وجاء عن معاوية رضي الله عنه أنه قال:
“العقل مكيال، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل.”
ومن كلام الحسن:
“ما استقصى كريم قط.”
وقال سفيان:
“ما زال التغافل من فعل الكرام.”
ومن جميل ما نُقل عن جعفر الصادق قوله:
“عظّموا أقداركم بالتغافل.”
ورُوي عن الأعمش:
“التغافل يُطفئ شرًّا كثيرًا.”
وقال أكثم بن صيفي – وهو من حكماء العرب –:
“من شدّد نفر، ومن تراخى تألّف، والشرف في التغافل.”
وقال الشافعي – رحمه الله –:
“الكَيّس العاقل هو الفطن المتغافل.”
وجاء عن الخزاعي قوله:
“سمعت عثمان بن زائدة يقول: العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في التغافل، فحدّثت به أحمد بن حنبل، فقال: العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل.”
وسُئل بزرجمهر: من أعقل الناس؟ فقال:
“من لم يجعل سمعه غرضًا لسماع الفحشاء، وكان الغالب عليه التغافل.”
وقال بعض الحكماء:
“وجدت أكثر أمور الدنيا لا تصلح إلا بالتغافل.”
وقيل في باب الكرم:
“أشرف الكرم تغافلك عما تعلم.”
وقيل كذلك:
“التغافل من الكرام، يمنحهم الإجلال والإكرام.”
ومن درر ابن حبان – رحمه الله – قوله:
“من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عمّا يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب، كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء.”
وقال ابن الجوزي: “العاقلُ الذَّكي من لا يُدقِّق في كل صغيرة وكبيرة مع أهله وأحبابه وأصحابه وجيرانه”.
وقال الجاحظ في المعنى نفسه:
“قالت العرب: الشرف التغافل. قلتُ: وأنت لا تجد أحدًا يتغافل عن ماله إذا خرج، وعن مبايعته إذا غُبن، وعن التقاضي إذا بخس، إلا وجدت في قلبك له فضيلة وجلالة لا تقدر على دفعها. وفي نحوه قال معاوية رضي الله عنه: إني لأجرّ ذيلي على الخداع.”
ومن درر الشعر في التغافل وترك التدقيق في غير موضعه:
ومَن لم يُغْمِضْ عينَه عن صديقِه
وعن بعضِ ما فيه يمُتْ وهو عاتبُ
ومن يتتبّعْ جاهدًا كلَّ عثرةٍ
يجدْها ولا يسلمْ له الدهرُ صاحبُ
ولقد أمرُّ على اللئيمِ يسبّني
فمضيتُ ثمّ قلتُ: لا يعنيني
تغافلْ في الأمورِ ولا تُناقِشْ
فيقطعْك القريبُ وذو المودّهْ
مناقشةُ الفتى تجني عليهِ
وتُبدِلُه من الراحاتِ شدّهْ
_______________________________________________
الكاتب: بقلم فضيلة الشيخ د.فيصل بن علي البعداني
Source link