أيها الناس: كل مؤمن يعلم أنه خلق لعبادة الله تعالى، وأن هذه الدنيا هي دار العمل؛ وأن الآخرة هي دار الجزاء. ولكن تصيب العبد غفلة عن ذلك بسبب حب الدنيا وزينتها، وبسبب النفس الأمارة بالسوء، وبسبب الشيطان ووساوسه؛ ولذا كان لزاما على العبد أن يزيل الغفلة من قل
الحمد لله اللطيف الخبير؛ لطف بعباده فهداهم، وأنعم عليهم وأعطاهم، وحفظهم من السوء وكفاهم، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو الجواد الكريم، البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ علم ضعف عباده فرحمهم، وعلم غفلتهم ونسيانهم فذكرهم، وعلم جهلهم فعلمهم، وعلم ميلهم إلى الدنيا فرغبهم ورهبهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يحذر الغفلة ويحذر منها أمته، وكان يستغفر الله تعالى من غفلته، وقَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامحوا الذنوب بالتوبة والاستغفار، وأزيلوا الغفلة بالذكر والاعتبار، وتقربوا إلى الله تعالى بصالح الأعمال؛ فإن الدنيا دار فناء وزوال، وإن الآخرة هي دار القرار {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5- 6].
أيها الناس: كل مؤمن يعلم أنه خلق لعبادة الله تعالى، وأن هذه الدنيا هي دار العمل؛ وأن الآخرة هي دار الجزاء. ولكن تصيب العبد غفلة عن ذلك بسبب حب الدنيا وزينتها، وبسبب النفس الأمارة بالسوء، وبسبب الشيطان ووساوسه؛ ولذا كان لزاما على العبد أن يزيل الغفلة من قلبه، وذلك بأمور من أهمها:
كثرة التفكر في عظمة الله تعالى وآياته ومخلوقاته وصفاته؛ فإن معرفة الله تعالى دواء القلوب وغذاؤها، وشفاء النفوس وراحتها، وسلامة الديانة واستقامتها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191].
وتزال الغفلة بقراءة القرآن؛ فإنه كتاب تفكر وتذكر، وبآياته تحيا القلوب وتتنبه، فلا تغفل عن ذكر الله تعالى ولا تنسى {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 2-3]، وقال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وفي قصصه تذكرة للعباد فلا يغفلون؛ كما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال سبحانه {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وخاطبه بقوله تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وكذلك أمثال القرآن {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27-28]، بل إن الله تعالى جعل حكمة تيسير القرآن للبشر إزالة الغفلة عنهم بتذكرهم {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وأمر سبحانه بالتذكير بالقرآن لأنه مزيل للغفلة {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
وتزال الغفلة عن العبد بتذكر الموت والقبر؛ فإن من تذكر الموت هانت عليه الدنيا، ولم يغفل قلبه عن عبادة ربه سبحانه؛ ولذا قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادمِ اللَّذَّاتِ» (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه). فأمر بالإكثار من ذكر الموت، وعدم الغفلة عنه؛ للاستعداد له ولما بعده. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه على شفير القبر، ويذكرهم بالموت وما بعده؛ ليزيل غفلة قلوبهم.
وتزال الغفلة عن العبد بتذكر النار وما فيها من العذاب والنكال؛ والله تعالى قد ذكرنا بنار الدنيا؛ لكيلا نغفل عن نار الآخرة، فقال سبحانه {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71-73]، فقوله سبحانه {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً}، أي: تذكر العباد بنار الآخرة.
وتزال الغفلة بحضور المواعظ ومجالس التذكير؛ فإنها سبب لرقة القلوب وإزالة غفلتها؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه بالتذكير والموعظة فقال سبحانه {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقال تعالى {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 9-10]، وقال تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21-22]. وفي عصرنا أصبحت المواعظ ومجالس التذكير ميسرة لمن أرادها، فهي كثيرة ومنوعة ومحفوظة في الفضاء الألكتروني، ويستطيع أي أحد أن يسمعها متى شاء، ويأخذ حظه منها، فلا عذر لأحد إلا من قصد غفلة قلبه، وإلهاء نفسه بما لا ينفعها، بل بما يضرها من المقاطع العبثية، وإطلاق البصر في مشاهدة اللهو والمجون، وهذا الذي يزيد في غفلة العبد، ويفسد عليه قلبه.
وتزال الغفلة بالمحافظة على الصلوات المفروضة؛ لأنها مكررة مع العبد في يومه وليلته، وفيها ذكر الله تعالى، وآياته تتلى، فيحيا قلب المصلي بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء والركوع والسجود؛ ولذا قال الله تعالى في خطابه لموسى عليه السلام حين كلمه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وأخبر سبحانه عن حياة قلوب عمار المساجد بحضور صلاة الجماعة فقال سبحانه {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَافَظَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ» (صححه ابن خزيمة والحاكم).
أيها المسلمون: حضور خطبة الجمعة وصلاتها سبب لإزالة الغفلة عن العبد؛ فهي زاد أسبوعي يتزود به؛ فينصت للخطبة لينتفع بها، ويؤدي الصلاة عقبها {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. ومن فرط في الجمعة فتركها غفل قلبه ولا بد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ من الغافلين» (رواه مسلم).
ومن أنفع ما يزيل الغفلة قيام الليل، ولو كان يسيرا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ» (رواه أبو داود). فحري بالمؤمن أن يكون له نصيب من قيام الليل ليزيل الغفلة عنه، من أول الليل أو وسطه، وأفضله آخره؛ حيث نزول الرب سبحانه، واستجابته للدعاء.
ومما يزيل الغفلة معرفة العبد بحقيقة الدنيا، وأنها مرحلة مؤقتة يعمل العبد فيها ثم يرحل عنها إلى دار الخلود؛ ذلك أن أكثر ما يسبب غفلة القلب الركون إلى الدنيا وملذاتها {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
ومما يزيل الغفلة مصاحبة الأخيار؛ فإنهم يذكرون العبد إذا نسي، ويقومونه إذا اعوج، وينبهونه إذا غفل، ويعلمونه ما جهل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
وصلوا وسلموا على نبيكم..
Source link