عثمان بن عفان القُرَشي الأُمَوي، أحد السابقين الأولين، والخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين، أمير المؤمنين، الملقب ذو النورين
عثمان بن عفان القُرَشي الأُمَوي، أحد السابقين الأولين، والخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين، أمير المؤمنين، الملقب ذو النورين؛ لكونه تزوج ابنتي النبيِّ رقية ثم أم كلثوم رضي الله عنهما، ولا يعرف أحدٌ من الأولين والآخرين تزوج ابنتي نبيٍّ إلا عثمان رضي الله عنه.
أسلم عثمان في مكة رابع أربعة بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، وكان أول من هاجر إلى الحبشة مع رقية بنت رسول الله ليعبد الله سبحانه، ثم رجع إلى مكة، وهاجر إلى المدينة النبوية حين أمرهم رسول الله بالهجرة، وكان من أغنياء الصحابة المتصدقين المحسنين، اشترى بئر رُومَة من يهودي في المدينة وأوقفها على المسلمين، وجهَّز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألفٍ من الإبل والخيل، وألفِ دينار، أو ما يقارب ذلك، وهذا مالٌ عظيمٌ جدًا، جاد به عثمان بطيبة نفس، وكان عثمان يكثر الصدقات، ويُعتِق كل أسبوع عبدًا أو أمَة، ويصوم النهار، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله، وكان يغتسل كل يوم.
وكان عثمان رضي الله عنه من كُتَّاب القرآن الكريم، ومن حفاظه المتقنين، كان أحيانًا يقرأ القرآن كله في ركعة يوتر بها، وهو ممن عرض القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام، وصَبَّر نفسه لتعليم القرآن الكريم، وهو راوي حديث: {خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ} ، وقرأ عليه القرآن كثير من الصحابة والتابعين، من أشهرهم: أبو عبد الرحمن السُّلَمي شيخ الإمام عاصم.
صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: ( «أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين» )، هكذا رواه سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بهذا اللفظ، ورواه نافع عن عبد الله بن عمر قال: (كنا نُخيِّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنُخَيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم).
بويع عثمان بالخلافة بعد دفن عمر رضي الله عنه، واستمر عثمانُ خليفة للمسلمين 12 عامًا، وكانت بعض البلاد التي فُتِحت في عهد عمر وصالحهم المسلمون على دفع الجزية نقض أهلها الصلح، وغدروا بالمسلمين، فأعاد عثمان فتحها بجيوش عظيمة، وقتل المسلمون آخر ملوك الفُرْس يَزْدَجِرْد، وتوسعت الفتوحات الإسلامية في عهد عثمان برًا وبحرًا، فوصلت الفتوحات في عهده إلى نهر السِّند (باكستان) وإلى نهر جَيْحُونَ شمال شرق أفغانستان، وإلى حدود القُوقَاز (جُورجِيا) جنوب شرق أوروبا، وإلى بلاد تونس في شمال أفريقيا، وعثمان هو أول من أَذِن للمسلمين بالجهاد في البحر، فصنع المسلمون في عهده أسطولًا بحريًّا، وفتحوا جزيرة قُبْرُص في البحر الأبيض المتوسط.
ومع انشغال عثمان بأعباء الخلافة والفتوحات الواسعة كان يُعلِّم الناس القرآن الكريم والسنة النبوية، ويصلي بالناس ويخطب بهم، ويحج بهم، وكان من أعلم الصحابة بمناسك الحج والمواريث، وكان من علماء التفسير، ومن فقهاء الصحابة، كان يُفتي الناس، ويقضي بينهم، وحدَّث بكثير من الأحاديث النبوية، وروى عنه العلم من الصحابة والتابعين أكثر من 140 راوٍ، وكان إذا أشكل عليه شيء استشار بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي كان من وزرائه ومستشاريه.
ومن مناقب عثمان أنه أمر بِرَسْمِ كلمات القرآن الكريم برَسْمٍ واحدٍ يرفع الخلاف الذي كان يقع بين بعض المسلمين في قراءة القرآن، ويُسمى الرسم العثماني نسبة إلى عثمان رضي الله عنه، وكان عثمان لا يمر عليه يوم ولا ليلة إلا ويقرأ في المصحف، وقال: (ما أحب أن يأتي عليَّ يوم وليلة إلا أنظر في كلام الله عز وجل)، وقال عثمان: (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله عز وجل).
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حِراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ» )).
وروى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ))، ففتحت له، فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ))، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ))، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم قال: الله المستعان» .
وفي القرآن الكريم آية تبين صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قال الله تعالى: {{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}} [الفتح: 16]، أمر الله رسوله أن يخبر المخلفين من الأعراب أنه سيدعوهم إلى الجهاد غيره بعد موته، وأنه يجب عليهم طاعة من سيدعوهم من الأئمة بعده إلى قتالِ قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ من الكفار، وهم المرتدون من العرب، وفارس والروم، وغيرهم من أهل الكفر، ويمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام؛ لأن الله سبحانه حكم حكمًا كونيًا بحرمان المتخلفين عن غزوة تبوك من الجهاد مع رسول الله فقال: {{فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}} [التوبة: 83]، فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أبو بكر وعمر وعثمان الذين دعوا الناس للجهاد في سبيل الله، قال العلامة ابن حزم: “أخبر الله تعالى أنَّ الأعراب الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومٍ يقاتلونهم أو يُسلمون، ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم، وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم، وما دعا أولئك الأعراب أحدٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يُسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب والروم والفُرس، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفُرس، وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفُرس والتُّرك، فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلًا، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضًا فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم”، وذكر هذا المعنى غير واحد من المفسرين كالجَصَّاص والواحدي والزمخشري والقرطبي وغيرهم.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعرف فضل أبي بكر وعمر وعثمان، ويحبهم، وسمى بعض أبنائه بأسمائهم، فله من الولد: أبو بكر بن علي، وعمر بن علي، وعثمان بن علي.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان عثمان أوصلَنا للرَّحم، وأتقانا للرب عز وجل).
وقال عبد الله بن مسعود حين بويع عثمان بالخلافة: (أمَّرْنا خيرَ من بقي).
وكان عثمان رضي الله عنه من أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم أخلاقًا، ومن أشد الناس حياء، وكان رحيمًا رقيقًا، متواضعًا، ينام أحيانًا في المسجد وهو خليفة، ويجلس بين الناس كأنه أحدهم.
روى البخاري عن عثمان قال: (إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله، وآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله عز وجل، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استُخْلِفْت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟!).
قال عثمان ذلك في آخر خلافته، حين خرج قومٌ عن طاعته، وعابوا عليه أنه ولَّى بعض أقاربه، وأنه زاد في حِمى إبل الصدقة، وكانت قد كثرت فاحتاج أن يخص لها أرضًا لا يرعى فيها أحد، وطلبوا منه أن يخص بالعطاء المجاهدين والصحابة، ولا يعطي أهل المدينة من مال الله، وزعموا – كاذبين – أنه سيتأثر بالمال، وعابوا عليه أنه بنى المسجد النبوي ولم يتركه على حاله، وكان قد وهى فأعاد بنائه بالحجر وزاد فيه، وحين سمع أنهم يريدون قتله أخبر عن نفسه أنه لم يقتل مسلمًا فيجب عليه القصاص، ولا ارتد عن دينه، ولم يزنِ في الجاهلية ولا في الإسلام قط!
قال عبد الله بن عمر: (لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوها عليه).
وقال الحسن البصري: سمعت عثمان يخطب يقول : (يا أيها الناس ما تنقمون عليَّ وما من يوم إلا وأنتم تقتسمون فيه خيرًا ؟!)، قال الحسن البصري: شهدت مناديه ينادي: يا أيها الناس اغدوا على أعطياتكم، فيغدون فيأخذونها وافرة، يا أيها الناس اغدوا على أرزاقكم، فيغدون فيأخذونها وافية، حتى سمعته يقول: اغدوا على كسواتكم، فيأخذون الحُلَل، واغدوا على السَّمن والعسل، أرزاقٌ دارة، وخيرٌ كثير، فلم يصبروا، وسلُّوا السيف، فصار على المسلمين مسلولًا إلى يوم القيامة.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن الذين قتلوا عثمان: (اقتحموا المصائب الثلاث: حُرمة البلد الحرام، وحُرمة الشهر الحرام، وحُرمة الخلافة، ولقد قتلوه وإنه لمن أوصلهم للرَّحِم، وأتقاهم لربه).
والذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه هم بعض الزائغين المفتونين من أهل مصر والكوفة، جاءوا إلى المدينة النبوية، وحاصروا بيت عثمان نحو شهرين، فعزم عثمان في آخر الأمر على من كان يحرسه من الصحابة والتابعين أن ينصرفوا عنه، وأكَّد عليهم الأمر بالانصراف وقال: (سأقي المؤمنين بنفسي)، وقال له عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: لقد أحل الله لك قتالهم، فقال عثمان: (والله لا أقاتلهم أبدًا)، وجاء إليه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقال: يا أمير المؤمنين، أنا طوع يديك، فمرني بما شئت، فقال له عثمان: (يا ابن أخي، ارجع فاجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره، فلا حاجة لي في إراقة الدماء)، فتسور بعض الأشقياء بيت عثمان وقتلوه ظلمًا وعدوانًا وهو صائمٌ يقرأ القرآن وقد جاوز عمره الثمانين عامًا في شهر ذي الحجة سنة 35 للهجرة، ودُفِن في البقيع بثيابه التي استُشْهِد فيها، رضي الله عنه.
ولم يكن يظن الصحابة الذين في المدينة أن يبلغ أمر أصحاب الفتنة إلى قتل عثمان، فقد كانوا يطالبون عثمان بعزل نفسه أو تسليم ابن أخيه مروان بن الحَكَم إليهم، وهو كاتبه، وكان بعضهم يهدد بقتل عثمان، ولما قُتِل عثمان قال أبو حُمَيد الساعدي رضي الله عنه وكان بدريًا: (اللهم إنَّ لك عليَّ أن لا أضحك حتى ألقاك).
وقال عبد الله بن سلَام رضي الله عنه: (لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة
لا تُغلق عنهم إلى قيام الساعة).
ورثى بعض الشعراء عثمان فقال:
فَكَفَّ يَدَيْهِ ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهُ … وَأَيْقَنَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلٍ
وَقَالَ لِأَهْلِ الدَّارِ لَا تَقْتُلُوهُمُ … عَفَا اللَّهُ عَنْ كُلِّ امْرِئٍ لَمْ يُقَاتِلِ
فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ صَبَّ عَلَيْهِمُ … الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَعْدَ التَّوَاصُلِ
وَكَيْفَ رَأَيْتَ الْخَيْرَ أَدْبَرَ بَعْدَهُ … عَنِ النَّاسِ إِدْبَارَ النَّعَامِ الْجَوَافِلِ
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
مَنْ سَرّهُ الموْتُ صِرْفاً لا مِزَاجَ لهُ … فلْيأتِ مأسَدة ً في دارِ عُثمانا
ضَحَّوا بِأشْمَطَ عُنوانُ السُّجودِ بِهِ … يُقَطِّع الليلَ تسبيحاً وقُرآنا
لَتَسْمَعَنَّ وَشِيكًا في ديارهُم … اللَّهُ أكْبَرُ يا ثَارَاتِ عُثْمانَا
وقال أيمن بن خُرَيم:
ضَحَّوا بِعُثْمانَ في الشَّهرِ الحَرَامِ ضُحَى … فأيُّ ذَبْحٍ حَرَامٍ ويْحَهم ذَبَحُوا
وأيُّ سُنَّةِ كُفرٍ سَنَّ أولُهُمْ … وبابِ شَرٍّ على سُلطَانِهم فَتَحُوا
ماذا أَرَادُوا أَضَلَّ اللهُ سَعْيَهُمُ … بِسَفْكِ ذاك الدَّمِ الزَّاكي الَّذِي سَفَحُوا
إِنَّ الَّذِينَ تَولَّوْا قَتْلَهُ سَفَهاً … لَقَوا أَثاماً وخُسْرَاناً وما رَبِحُوا
Source link