الأربعة الذين أدخلوا رواية الحديث في الأندلس – محمد بن علي بن جميل المطري

أربعة علماء من بلاد الأندلس كلهم من قُرطبة، تدور عليهم أسانيد الأندلسيين، رحلوا إلى المشرق، والتقوا بكبار المحدثين في زمانهم

 

 أربعة علماء من بلاد الأندلس كلهم من قُرطبة، تدور عليهم أسانيد الأندلسيين، رحلوا إلى المشرق، والتقوا بكبار المحدثين في زمانهم، ورووا عنهم كتبهم التي صنفوها في الأحاديث بالأسانيد، ورجعوا إلى الأندلس بعلم عظيم، ونشروا رواية الحديث في الأندلس:

الأول: يحيى بن يحيى الليثي القرطبي، رحل من الأندلس إلى المدينة النبوية وعمره نحو سبعة وعشرين عامًا، فلقي الإمام مالكًا، وسمع منه كتابه الموطأ في آخر حياته، وحضر جنازته، ولازم عبد الله بن وهب وابن القاسم وهما من أشهر أصحاب مالك، وسمع الليث بن سعد محدِّث مصر وسفيان بن عيينة محدِّث مكة، ورجع إلى الأندلس بعلم كثير، وكان فقيهًا، وتفقه به جماعة لا يُحصون عددًا، وبه ظهر مذهب مالك في الأندلس، وروى عنه طلاب العلم موطأ مالك، وأشهر روايات الموطأ هي رواية يحيى بن يحيى الليثي، توفي يحيى الليثي رحمه الله سنة 234 للهجرة.

الثاني: بَقِي بن مَخْلَد القرطبي، سمع من يحيى بن يحيى الليثي موطأ مالك، ثم رحل إلى المشرق، فأكثر من الرواية جدًا عن أبي بكر بن أبي شيبة شيخ البخاري ومسلم، صاحب المصنَّف المشهور الذي فيه ما يقارب 40 ألف رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة والتابعين، فأدخل بقي بن مخلد كتاب شيخه إلى الأندلس، وروى أيضًا عن محمد بن بشَّار وأبي كُرَيب وهنَّاد بن السَّري، وكلهم من شيوخ البخاري ومسلم، وعدد شيوخه 284 راويًا من أهل الأندلس والحرمين ومصر والشام والعراق، رجع من رحلته إلى الأندلس فنشر بها مروياته، وكان كثير العبادة، قيل: إنه كان يقرأ القرآن كل ليلة في ثلاث عشرة ركعة، ويصلي بالنهار مائة ركعة، ويصوم الدهر إلا الجمعة، وكان كثير الجهاد والرِّباط، يقال: إنه شهد سبعين غزوة، توفي بقي بن مخلد رحمه الله سنة 276 للهجرة.

الثالث: محمد بن وضَّاح القرطبي، سمع من يحيى بن يحيى الليثي موطأ مالك، ثم رحل إلى المشرق مرتين، ولقي أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبا بكر بن أبي شيبة والفقيه سُحْنون بن سعيد، وعدد شيوخه 160 شيخًا، وهو الذي أدخل رواية ورش إلى الأندلس، رواها عن عبد الصمد بن عبد الرحمن صاحب ورش، فاعتمد أهل الأندلس في القراءة رواية ورش عن نافع، توفي محمد بن وضاح رحمه الله سنة 287 للهجرة.

الرابع: قاسم بن أَصْبَغ القرطبي، سمع الحديث في الأندلس من بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح، ثم رحل إلى المشرق سنة أربع وسبعين ومائتين وهو ابن سبع وعشرين سنة، فأدرك كبار محدِّثي ذلك العصر، حتى صار كما قال الحافظ الذهبي: “مُسْنَد العصر بالأندلس وحافظها ومحدّثها الَّذِي من أخذ عنه فقد استراح من الرّحلة”، وأشهر طلابه عبد الوارث بن سفيان القرطبي، الذي سمع منه أكثر رواياته، وكان أوثق النّاس فيه، وأكثرهم ملازمةً له، توفي قاسم بن أصبغ رحمه الله سنة 340 للهجرة.

وجميع محدثي الأندلس كابن حزم وابن عبد البر يكثرون من رواية الأحاديث من طريق هؤلاء الأربعة، فمثلًا ابن حزم (ت 456 هـ) يروي أحاديث مصنف ابن أبي شيبة (ت 235 هـ) من طريق شيخه القاضي حُمام بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال: حدثنا عبد الله بن يونس قال: حدثنا بقي بن مخلد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، فبين ابن حزم وبين ابن أبي شيبة 4 رواة فقط.

وحافظ الأندلس ابن عبد البر (ت 463 هـ) يقول: حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الله بن يونس قال: حدثنا بقي بن مخلد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، فبين ابن عبد البر وبين ابن أبي شيبة 4 رواة فقط.

ولابن عبد البر إسناد أعلى من هذا بدرجة، يكثر في كتبه من رواية الأحاديث والآثار التي في مصنف ابن أبي شيبة به، وهو قوله: حدثنا سعيد بن نصر قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، فبين ابن عبد البر وبين ابن أبي شيبة بهذا الإسناد العالي 3 رواة فقط.

ويروي ابن عبد البر صحيح البخاري بإسنادٍ عالٍ بينه وبين البخاري 3 رواة فقط، يقول ابن عبد البر:

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال: حدثنا سعيد بن عثمان بن السَّكن قال: حدثنا محمد بن يوسف الفربري قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري.

ولابن عبد البر أسانيد عالية جدًا يروي بها عن شيوخ البخاري ومسلم من طريق قاسم بن أصبغ، منها:

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن عبد السلام قال: حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن بشار من شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه والنسائي.

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال: حدثنا بكر بن حمَّاد قال: حدثنا مُسَدَّد، ومسدد من أشهر شيوخ البخاري.

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم، ودُحَيم لقب له، وهو من مشايخ البخاري.

ولم يَحتَج ابن عبد البر في كتبه للرواية من صحيح مسلم؛ لأنه يروي الأحاديث التي في صحيح مسلم عن شيوخ مسلم وشيوخ شيوخه بأسانيد عالية جدًا، لا سيما وكثير من أحاديث صحيح مسلم هي من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، وبين ابن عبد البر وبين ابن أبي شيبة 3 رواة فقط كما تقدم، وقد ذكر ابن عبد البر مسلم بن الحجاج في كتابه التمهيد نحو ثمان مرات فقط من غير أن يروي عنه، وكذا ذكر أبا عيسى محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن مرات قليلة، ولم يرو عنه إلا نادرًا، وبينهما ثلاثة رواة، وهو يروي عن محمد بن إسماعيل الترمذي شيخ محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن، وبينهما راويان فقط، يقول ابن عبد البر: أخبرنا سعيد بن نصر قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي.  

وابن عبد البر يروي مسند الإمام أحمد بإسناد عال، بينه وبين أحمد بن حنبل ثلاثة رواة فقط، يقول ابن عبد البر عند رواية أي حديث من مسند أحمد، وهو أكثر من 27 ألف حديث: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي.

ويروي ابن عبد البر سنن أبي داود بإسناد عال، بينه وبين أبي داود راويان فقط! يقول ابن عبد البر عند رواية أي حديث من سنن أبي داود: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال: حدثنا محمد بن بكر التمار قال: حدثنا أبو داود.

ويروي ابن عبد البر سنن النسائي بإسناد عال، بينه وبين النسائي راويان فقط! يقول ابن عبد البر عند رواية أي حديث من سنن النسائي: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال: حدثنا حمزة بن محمد قال: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، وله إسنادان آخران يروي بهما الأحاديث من طريق النسائي.

وبين ابن عبد البر وبين أحمد بن زُهير بن حرب مؤلف كتاب التاريخ الكبير راويان فقط، يقول ابن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أحمد بن زهير، وكتاب التاريخ الكبير لأحمد بن أبي خيثمة زُهير بن حرب كتاب كثير الفائدة، قال عنه الذهبي: “لا أعرف أغزر فوائد منه”.

وبين ابن عبد البر وبين شيخ المفسرين والمؤرخين محمد بن جرير الطبري راويان فقط، يقول ابن عبد البر: حدثني أحمد بن محمد بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن الفضل الخفاف قال: حدثنا محمد بن جرير.

وبين ابن عبد البر وبين الدارقطني راو واحد، يقول ابن عبد البر: أخبرنا محمد بن عمروس قال: حدثنا علي بن عمر الدارقطني.

وسبحان الله ما أعلى بعض أسانيد حافظ الأندلس ابن عبد البر! كثير من أسانيده إلى النبي عليه الصلاة والسلام سباعية مع أنه ولد سنة 368 هجرية، وتوفي سنة 463 هجرية عن 95 عامًا، وسبب ذلك أنه بكَّر بسماع الحديث فأدرك بعض المعمَّرين، فله بعض الأسانيد السداسية، فيكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستة رواه فقط، مثل هذا الحديث المسلسل بشيوخ معمَّرين:

أخبرنا محمد بن عبد الملك قال: حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي قال: حدثنا سعدان بن نصر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (القادر, القدير, المقتدر) – فهد بن عبد العزيز الشويرخ

من أسماء الله الحسنى: القادر, القدير, المقتدر. وللسلف رحمهم الله أقوال في معاني هذه الاسماء, …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *