منذ حوالي ساعة
من أعظم مظاهر العصر أنّ المبادئ قد تحوّلت من كونها معالم ثابتة، تُستنبط من مشكاة الوحي وتُبنى على الفطرة السليمة، إلى مواد هلامية تتشكل وفق المزاج المجتمعي، وباتت اليوم المبادئ أسيرة الترندات
في زمنٍ مضى، كانت القيم كالنقش في الصخر، لا تمحوها أهواء، أمّا اليوم، باتت كالرسم على الرمل، تنتظر الموج القادم ليعيد تشكيلها كيفما شاء، ولم تعد الأخلاق مبادئ ثابتة تُحكم بها النفوس، بل أضحت كقطع الشطرنج، يحركها اللاعب الأقوى وفق ما تقتضيه مصلحته، وما يستميل به الجماهير.
صار الناس يرفعون راية الفضيلة إذا ناسبت هواهم، ثم يطوونها متى ما ضاقت بهم، الكذبُ يُسمّى “ذكاءً اجتماعيًا”، والخيانةُ تُغلف باسم “الحرية الشخصية”، وفي لحظة زمنية ما، تكون الأمانة موضع إجلال، فإذا تغيّر المزاج العام، أصبحت الأمانة “عائقًا” في وجه النجاح الشخصي، وفي عصرٍ سابق، كان الوفاء يُعَدُّ تاج الأخلاق، فإذا بنا اليوم نجد من يُفاخر بمهارته في التخلي السريع والتملص من العهود، ولم يعد الصدق تلك الفضيلة التي يُثنى على صاحبها، بل غدا في أحيان كثيرة موضع انتقاد تحت مسمى “السذاجة”.
لم يعد الأمر متعلّقًا بالصواب والخطأ، بل بمن يملك المنصة، ومن يصنع الخطاب، كما أشار علي عزت بيغوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب: “المجتمعات التي تفقد اتصالها بالإيمان والضمير الروحي، تتحول إلى كيانات سطحية، لا معيار فيها للخير والشر سوى ما تحدده المصلحة الآنية.”
والمجتمع الذي يجعل القيم خادمةً للأهواء هو مجتمعٌ يفقد ذاكرته الأخلاقية، ومن أعظم مظاهر العصر أنّ المبادئ قد تحوّلت من كونها معالم ثابتة، تُستنبط من مشكاة الوحي وتُبنى على الفطرة السليمة، إلى مواد هلامية تتشكل وفق المزاج المجتمعي، وباتت اليوم المبادئ أسيرة الترندات، وهذا العصر، بقدر ما أطلق العنان للعقول، فقد قيّد الضمائر بحبالٍ غير مرئية، حتى صار الحق مسألة رأي، والباطل وجهة نظر.
هذا التحوّل الخطير لا يتوقف عند حد التغير الأخلاقي، بل يتغلغل إلى مفهوم الحقيقة ذاتها، فما كان صوابًا بالأمس، قد يُعاد تعريفه اليوم كـ”قمع للحرية”، وما كان رذيلةً يُنبذ صاحبها، صار رمزًا للانفتاح والتقدّم.
هذه السيولة في القيم ليست أمرًا عفويًا، بل هي نتاج منظومات فكرية وقوى ثقافية تعيد تشكيل وجدان الناس وتُبدّل معاييرهم، والنتيجة أن القيم التي كانت تضبط سلوك الفرد وتمنحه معيارًا واضحًا، أصبحت مرتهنة لرغبات الجماهير وأهواء السوق، فلا الثابت بقي ثابتًا، ولا المتغير توقف عن التغير.
وفي هذا المشهد، تنكشف أهمية العودة إلى المعايير الإلهية، ففي عالمٍ صار الحق فيه مرهونًا بشهرةٍ إعلامية، والباطل يُروج له باسم التنوير، يحتاج الإنسان إلى مصدر يُعيد له البوصلة، ويثبّت له القيم، فلا تذوب في تيارات العصر، ولا تفقد معناها في زحام التغيرات المتلاحقة.
Source link