منذ حوالي ساعة
تأمل كيف يكون الرجاء في المرء رهينًا بموافقة الهوى، وكيف يصبح المرء مرجُوًّا في أعين قومه، حتى إذا نطق بالحق انقلب الرجاء خيبة، وأضحى المأمول مكروهًا منبوذًا.
قال تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٌ}
تأمل كيف يكون الرجاء في المرء رهينًا بموافقة الهوى، وكيف يصبح المرء مرجُوًّا في أعين قومه، حتى إذا نطق بالحق انقلب الرجاء خيبة، وأضحى المأمول مكروهًا منبوذًا.
لقد كان لصالح -عليه السلام- في قومه موضع رجاء، ظنوه ركنًا مكينًا في بنيانهم، وسندًا مأمونًا لتقاليدهم، رأوا فيه العقل الراجح، والحكمة البالغة، والمكانة الرفيعة، فكانوا يأملون أن يكون امتدادًا لمنهجهم، وأن يمضي على خطى الأسلاف دون التفات، لكن الخيبة لدغت أفئدتهم حين سمعوا منه كلمة لم تكن في حساباتهم:
قال تعالى: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}
كل شيء يا صالح إلا هذا! لقد كنا نظن فيك رجاحة، ولم نحسب أنك ستنقلب على إرث الآباء! لقد خذلت رجاءنا حين دعوتنا إلى التوحيد، إلى عبادة الله وحده!
هنا يتجلى عجب القوم، ووجومهم أمام الحق، لا لأنهم رأوا في دعوته لبسًا، ولا لأنهم وجدوا فيها شبهة، بل لأنهم ألفوا طريقًا لا يخرج عنه أحد إلا كان شاذًا في أعينهم، وليس الأمر بحثًا في الحقائق، ولا طلبًا للبينات، بل هو انغلاق على تقاليد موروثة، وتقليد للآباء في أخصّ أمر في الوجود: العقيدة!
قال تعالى: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٌ}
وهكذا تحوَّل النور إلى ريبة في عيونهم، وأصبح الحق مدعاة للشك، فقط لأنه لم يكن على صورة ما اعتادوا! وما أقسى أن يكون العقل رهن الموروث، لا يخطو خطوة إلا على آثار السابقين، وما أشد غربة التوحيد حين ينبت في أرض أكلتها التقاليد، فأنبتت رؤوسًا لا ترى في الحق إلا خروجًا، ولا ترى في الباطل إلا مسلكًا آمِنًا، لأنه طريق الآباء والأجداد.
وهكذا، لا تزال سُنّة القوم باقية تتكرر في كل عصر، فيُلام الشاب اليوم على تدينه، وتُعاتب الفتاة على حجابها، لأنهما كانا “مرجوّين” في بيئتهما أن يكونا شيئًا آخر، أن يسيرا في طريق “المألوف”، أن يذوبا في قوالب المجتمع دون أن يتميزا بإيمان أو استقامة.
كم من شاب قيل له: “لقد كنا نرجوك صاحب منصب، ذا طموح دنيوي، متفتحًا على الحياة! أما هذا التدين الذي تقيدت به، أما هذا السمت الذي اخترته، فهو ليس ما كنا ننتظره منك!”
وكم من فتاة لامها أهلها أو صويحباتها: “لقد كنا نرجوك متألقة كما هن، سائرة في ذات الطريق، ولكنك غدوت متزمتة، بعيدة عن هذا العصر، متحفظة أكثر مما ينبغي!”
وكأنما كان يُنتظر من المؤمن أن يكون مرجُوًّا في غير ما خُلق له، أن يكون نسخة من محيطه، يذوب فيه دون أن ينفصل عنه بمبدأ، أو يتميز عليه بغاية، فإن خالف التوقعات، ورفع لواء الاستقامة، جاء العتاب المغلف بخيبة الرجاء، ويا لعمق القاسم المشترك بين نبي الله صالح في زمانه، وشاب صالح في زماننا! لم يكن الاعتراض يومًا على منطقه، ولا على وضوح حجته، بل على أنه لم يوافق السائد، ولم يَسِر في تيار العادة، ولم يكن “كما كنا نريد!
وهكذا يبقى ميزان الحق عند من حُرِم البصيرة معلقًا بموروث العادات، حتى يعجب من النور، ويستنكر الهدى، ويحارب الحق، ويرى في الانقياد لما كان عليه الآباء أمانًا، وفي الاستجابة لدعوة الحق هلاكًا!
Source link