وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ – خالد سعد النجار

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

يقول تعالى في سورة آل عمران:

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}

{{وَمَا كَانَ}} صيغة جحود فإذا استعملت في الإنشاء -كما هنا- كانت للمبالغة في النهي.

فإذا جاء (ما كان) في القرآن فإن معناها نفي محقق مثل قوله تعالى: {{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}} [الأنفال:٣٣] ومثل قوله تعالى: {ما كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران:۱۷۹] وقوله: { {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}} [الإسراء:١٥].. يعني أن هذا منتف قطعاً، ولا يمكن أن يكون.

{لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} الغلُّ والغلول: السرقة من الغنائم قبل قسمتها، وقيل أصل الغلول: الغلل وهو دخول الماء في خلال الشجر، فسميت الخيانة غلولاً لأنها تدخل المِلك من غير حله وفي خفاء كجري الماء، ومنه الغِل وهو الحقد لأنه يكون دفينا متغلغلا في كيان النفس الإنسانية ويفسدها.

والغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغلول الذي هو الأخذُ في خفية مأخوذةٌ من هذا المعنى.

والمعنى: ما صح وما تأتّى لنبي من الأنبياء أن يخون في المغنم، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم.

والتنكير هنا للتعميم، فليس من شأن أي نبي يتكلم عن الله تعالى أن يخون، وإذا كان التنكير للتعميم -لأنه تنكير في مقام النفي- فمؤدى الكلام أن النبوة والغلول نقيضان لا يجتمعان، فما كان لأحد أن يظن أن النبي سوف لَا يقسم بالسوية، وإذا وقع ذلك الظن فهو من الظن الإثم.

روى أبو داود قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: “نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}} [آل عمران:161] فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ، فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}} [آل عمران:161] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ” قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «يَغُلَّ مَفْتُوحَةُ الْيَاءِ» [صححه الألباني]

وهذا تبرئة له -صلوات الله وسلامه عليه- عن جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.

{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يأتي به مشهرا مفضوحا بالسرقة.. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد.

والآية دلت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بغير إذن أمير الجيش، وهو من الكبائر لأنه مثل السرقة. ومن غل في المغنم يؤخذ منه ما غله ويؤدب بالاجتهاد، ولا قطع فيه باتفاق، هذا قول الجمهور.

وقد وردت السنة بالنهي عن الغلول في أحاديث متعددة:

روى البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «قَامَ فِينَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، قَالَ: (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ)»

وقوله: (صَامِتٌ) أي الذهب والفضة، وقيل ما لا روح فيه من أصناف المال.

(رِقَاعٌ تَخْفِقُ) أراد بالرقاع ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع. وخفوقها حركتها، وقيل: تتقعقع وتضطرب إذا حركتها الرياح.

وروى أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَانَ يَأْخُذُ الْوَبَرَةَ مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ مِنَ الْمَغْنَمِ فَيَقُولُ: (مَا لِي فِيهِ إِلَّا مِثْلُ مَا لِأَحَدِكُمْ مِنْهُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ خِزْيٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ؛ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِنَّهُ لَيُنَجِّي اللهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللهِ فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَلَا تَأْخُذْكُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ) [قال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن وهذا إسناد ضعيف]

وروى أبو داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ.. «ثُمَّ دَنَا يَعْنِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَعِيرٍ فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ ثُمَّ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ شَيْءٌ وَلَا هَذَا وَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ) فَقَامَ رَجُلٌ فِي يَدِهِ كُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ أَخَذْتُ هَذِهِ لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْذَعَةً لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكَ) فَقَالَ أَمَّا إِذْ بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلَا أَرَبَ لِي فِيهَا وَنَبَذَهَا » [حسنه الألباني]

وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ عَلَى ثَقَلِ [المتاع المحمول في السفر مما يستعمله المسافر] النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(هُوَ فِي النَّارِ) فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا» .

وروى البخاري عن سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ [هو الذي لا يدرى من رماه] حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا) فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ)» .

وروى مسلم عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ « لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ) قَالَ فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ» .

وروى ابن حبان -بسند ضعيف- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: « (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ)، فَتَغَيَّرَتْ وجُوهُ الْقَوْمِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ خَرَزِ الْيَهُودِ لَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ» .

وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيَخْمُسُهُ وَيُقَسِّمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَقَالَ: (أَسَمِعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا؟) قَالَ نَعَمْ قَالَ: (فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟) فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: (كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ)» [حسنه الألباني]

وروى مسلم عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنْ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي. قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ)»

قال المحققونَ: وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامةِ، وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحتُه.

وروى أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسْتَوْرِدَ بْنَ شَدَّادٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «(مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ، فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ، أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ دَابَّةٌ فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ)» [صححه الأرنؤوط]

وروى مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «(مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ قَالَ وَمَا لَكَ قَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)»

وروى مسلم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ وَأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبْ الْأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)» .

وروى أحمد في المسند عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(أَعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللهِ ذِرَاعٌ مِنَ الْأَرْضِ، تَجِدُونَ الرَّجُلَيْنِ جَارَيْنِ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الدَّارِ، فَيَقْتَطِعُ أَحَدُهُمَا مِنْ حَظِّ صَاحِبِهِ ذِرَاعًا، فَإِذَا اقْتَطَعَهُ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)» [حسنه الأرنؤوط]

وروى أبو داود بسند ضعيف عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ- قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «وَصَالِحٌ هَذَا أَبُو وَاقِدٍ»- قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ) قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ فَقَالَ: «بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ»

وقد قال علي بن المديني، رحمه الله، والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا. وقال الدارقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- ومن تابعه من أصحابه، وخالفه أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والجمهور، فقالوا: لا يحرق متاع الغالّ، بل يعزر تعزير مثله. وقال البخاري: وقد امتنع رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الصلاة على الغال، ولم يحرق متاعه، والله أعلم.

قال القرطبيُّ: “دلَّتْ هذه الآية على أن الغلولَ من الغنيمة كبيرةٌ من الكبائرِ، ويؤيده ما ورد من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: -في مِدْعَم- : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أخذَ يَوْمَ خَيْبَرِ مِنَ الْمَغَانِمِ ولم تُصِبْهَا المَقَاسِمُ- لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً) فلما سمع الناسُ ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فقال: (شَرِاكٌ أو شَرِكَانِ مِنْ نَارٍ) وامتناعه من الصلاة على مَنْ غَلَّ دليلٌ على تعظيم الغلولِ، وتعظيم الذنب فيه، وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الآدميين، ولا بُدَّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (شَرِاكٌ أو شَرِاكَانِ مِنْ نَارٍ) مثل قوله: (أدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ) وهذا يدل على أن القليلَ والكثير لا يحلّ أخذهُ في الغَزْو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو والاحتطابِ والاصطيادِ”.

{{ثُمَّ}} وهي تفيد التراخي بين إحضار الأعمال بأوزارها ثم يتولى جزاءها، فإن هذا التراخي يفيد طول الحساب، وطول الحساب عذاب في ذات نفسه، وهو في الوقت ذاته يدل على دقته إذ تقام الموازين بالقسط.

{{تُوَفَّى}} تعطى جزاء ما كسبت وافياً، وفيه إشارة إلى أنه لَا ينقص شيء مما عملت إن خيرا وإن شرا، إلا أن يتغمده الله برحمته فيعفو عن بعض السيئات وهو العفو الغفور.

{{كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}} تنبيه على العقوبة بعد التفضيح.

وإنما عمم الحكم ولم يقل: ثم يوفى الغال ما كسب، ليكون كالبرهان على المقصود، والمبالغة فيه، فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله، فالغالّ مع عظم جرمه بذلك أولى.

وفيها إعلامٌ أن الغالَّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يُجَازوا، فيندرج الغالُّ تحت هذا العموم -أيضاً- فكأنه ذُكِرَ مرتَيْن.

{{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}} فلا ينقص ثواب مطيعهم، ولا يزاد في عقاب عاصيهم. وفيه نفي للظلم نفيا مؤكدا بالتعبير بالجملة الاسمية.

وصفات الله عز وجل إذا وجدت فيها النفي فهي مدح، فإذا وجدت نفي الظلم فلكمال العدل، وإذا وجدت نفي اللغوب فلكمال القوة، وإذا وجدت نفي العي { {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ}} [الأحقاف:٣٣] فلكمال القوة أيضاً، وإذا وجدت نفي الغفلة {{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}} [البقرة:٧٤] فلكمال العلم والمراقبة، وهكذا.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

بداية تدوين علم التفسير ومعرفة نسخ التفسير القديمة – محمد بن علي بن جميل المطري

منذ حوالي ساعة أول مرحلة من مراحل تدوين علم التفسير هي كتابة التابعين وأتباع التابعين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *