خطبة فضل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب – محمد بن علي بن جميل المطري

أيها المسلمون، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله سبحانه، وسأتكلم في هاتين الخطبتين عن صحابِيَّين جليلين، هما عثمان وعلي رضي الله عنهما.

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

{﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ } [الحشر: 18].

{﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ } [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد:

فإنَّ خير الكلام كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.

أيها المسلمون، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله سبحانه، وسأتكلم في هاتين الخطبتين عن صحابِيَّين جليلين، هما عثمان وعلي رضي الله عنهما.

عثمان بن عفان القُرَشي الأُمَوي، أحد السابقين الأولين، والخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين، أمير المؤمنين، الملقب ذو النورين؛ لكونه تزوج ابنتي النبيِّ رقية ثم أم كلثوم رضي الله عنهما، ولا يعرف أحدٌ من الأولين والآخرين تزوج ابنتي نبيٍّ إلا عثمان رضي الله عنه.

أسلم عثمان في مكة رابع أربعة بعد أبي بكر وعلي وزيد بن حارثة، وكان أول من هاجر إلى الحبشة مع رقية بنت رسول الله ليعبد الله سبحانه، ثم رجع إلى مكة، وهاجر إلى المدينة النبوية حين أمرهم رسول الله بالهجرة، وكان من أغنياء الصحابة المتصدقين المحسنين، اشترى بئر رُومَة من يهودي في المدينة وأوقفها على المسلمين، وجهَّز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألفٍ من الإبل والخيل، وألفِ دينار، أو ما يقارب ذلك، وهذا مالٌ عظيمٌ جدًا، جاد به عثمان بطيبة نفس، وكان عثمان يكثر الصدقات، ويُعتِق كل أسبوع عبدًا أو أمَة، ويصوم النهار، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله، وكان يغتسل كل يوم.

وكان عثمان من كُتَّاب القرآن الكريم، ومن حفاظه المتقنين، كان أحيانًا يقرأ القرآن كله في ركعة يوتر بها، وهو ممن عرض القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام، وصَبَّر نفسه لتعليم القرآن الكريم، وهو راوي حديث: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))، وقرأ عليه القرآن كثير من الصحابة والتابعين، من أشهرهم: أبو عبد الرحمن السُّلَمي شيخ الإمام عاصم.

أيها المسلمون، صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: (أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين).

بويع عثمان بالخلافة بعد دفن عمر رضي الله عنه، واستمر عثمانُ خليفة للمسلمين 12 عامًا، وكانت بعض البلاد التي فُتِحت في عهد عمر وصالحهم المسلمون على دفع الجزية نقض أهلها الصلح، وغدروا بالمسلمين، فأعاد عثمان فتحها بجيوش عظيمة، وتوسعت الفتوحات الإسلامية في عهد عثمان برًا وبحرًا، وعثمان هو أول من أَذِن للمسلمين بالجهاد في البحر، فصنع المسلمون في عهده أسطولًا بحريًّا، وفتحوا جزيرة قُبْرُص.

أيها المسلمون، كان عثمان مع انشغاله بأعباء الخلافة يُعلِّم الناس القرآن الكريم والسنة النبوية، ويصلي بالناس ويخطب بهم، ويحج بهم، ويُفتي الناس، ويقضي بينهم، وحدَّث بكثير من الأحاديث النبوية، وكان إذا أشكل عليه شيء استشار بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي كان من وزرائه ومستشاريه.

ومن مناقب عثمان أنه أمر بِرَسْمِ كلمات القرآن الكريم برَسْمٍ واحدٍ يرفع الخلاف الذي كان يقع بين بعض المسلمين في قراءة القرآن، ويُسمى الرسم العثماني نسبة إلى عثمان رضي الله عنه، وكان عثمان لا يمر عليه يوم ولا ليلة إلا ويقرأ في المصحف، وقال: (ما أُحِب أن يأتي عليَّ يوم وليلة إلا أنظر في كلام الله عز وجل، لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله عز وجل).

أيها المسلمون، كان عثمان رضي الله عنه من أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم أخلاقًا، وكان من أشد الناس حياء، وكان رحيمًا رقيقًا، متواضعًا، ينام أحيانًا في المسجد وهو خليفة، ويجلس بين الناس كأنه أحدهم، وقد بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأخبر بأنه سيكون شهيدًا.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حِراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ))» .

أيها المسلمون، في القرآن الكريم آيةٌ تبين صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قال الله تعالى: {{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}} [الفتح: 16]، أمر الله رسوله أن يخبر المخلفين من الأعراب أنه سيدعوهم إلى الجهاد غيره بعد موته، وأنه يجب عليهم طاعة من سيدعوهم من الأئمة بعده إلى قتالِ قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ من الكفار، وهم المرتدون من العرب، وفارس والروم، وغيرهم من أهل الكفر، قال العلماء: الذين دعوا الناس إلى قتال قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ يقاتلونهم أو يسملون هم أبو بكر وعمر وعثمان، الذين دعوا الناس للجهاد في سبيل الله، فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب والروم والفُرس، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفُرس، ودعاهم عثمان إلى قتال الروم والفُرس والتُّرك، فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن، فدلت هذه الآية على صحة إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم.

أيها المسلمون، كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعرف فضل أبي بكر وعمر وعثمان، ويحبهم، وسمى بعض أبنائه بأسمائهم، فله من الولد: أبو بكر بن علي، وعمر بن علي، وعثمان بن علي، وقال علي: «(كان عثمان أوصلَنا للرَّحم، وأتقانا للرب عز وجل)» .

وفي آخر خلافة عثمان خرج قومٌ عن طاعته، وعابوا عليه أنه ولَّى بعض أقاربه، وأنه زاد في حِمى إبل الصدقة، وكانت قد كثُرت فاحتاج أن يخص لها أرضًا لا يرعى فيها أحد، وطلبوا منه أن لا يعطي أهل المدينة من مال الله، وأن يخص بالعطاء المجاهدين والصحابة، وزعموا – كاذبين – أنه يستأثر بمال بيت المسلمين، وعابوا عليه أنه بنى المسجد النبوي ولم يتركه على حاله، وكان قد وهى فأعاد بنائه بالحجر وزاد فيه، وحين سمع أنهم يريدون قتله أخبر عن نفسه أنه لم يقتل مسلمًا فيجب عليه القصاص، ولا ارتد عن دينه، ولم يزنِ في الجاهلية ولا في الإسلام قط! 

قال عبد الله بن عمر: (لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوها عليه).

وقال الحسن البصري: سمعت عثمان يخطب يقول : (يا أيها الناس ما تنقمون عليَّ وما من يوم إلا وأنتم تقتسمون فيه خيرًا ؟!)، قال الحسن البصري: كانوا في أرزاقٍ دارَّةٍ، وخيرٍ كثير، فلم يصبروا، وسَلُّوا السيف، فصار على المسلمين مسلولًا إلى يوم القيامة.

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن الذين قتلوا عثمان: (اقتحموا المصائب الثلاث: حُرمة البلد الحرام، وحُرمة الشهر الحرام، وحُرمة الخلافة، ولقد قتلوه وإنه لمن أوصلهم للرَّحِم، وأتقاهم لربه).

والذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه هم بعض الزائغين المفتونين من أهل مصر والكوفة، جاءوا إلى المدينة النبوية، وحاصروا بيت عثمان نحو شهرين، ومنعوه من صلاة الجمعة والجماعة، فعزم عثمان في آخر الأمر على من كان يحرسه من الصحابة والتابعين أن ينصرفوا عنه، وأكَّد عليهم الأمر بالانصراف، وقال: (والله لا أقاتلهم أبدًا)، وجاء إليه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقال: يا أمير المؤمنين، أنا طوع يديك، فمرني بما شئت، فقال له عثمان: (يا ابن أخي، ارجع فاجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره، فلا حاجة لي في إراقة الدماء)، فتسور بعض الأشقياء بيت عثمان وقتلوه ظلمًا وعدوانًا وهو صائمٌ يقرأ القرآن وقد جاوز عمره الثمانين عامًا في شهر ذي الحجة سنة 35 للهجرة، ودُفِن في البقيع بثيابه التي استُشْهِد فيها، رضي الله عنه.

قال عبد الله بن سلَام رضي الله عنه: (لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا تُغلق عنهم إلى قيام الساعة)، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، أما بعد:

ففي هذه الخطبة نتحدث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هو أبو الحَسَنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القُرَشي الهاشمي، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشَّرين، أسلم وعمره 10 سنوات بعد إسلام أم المؤمنين خديجة وقبل إسلام أبي بكر، فعليٌّ أول من أسلم من الغِلمان، كان في صِغَره في كفالة النبي عليه الصلاة والسلام، فنشأ في بيت النبي وفيه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها خيرُ نساء هذه الأمة، وكان عليٌّ في مكة يتعلم من النبي عليه الصلاة والسلام الكتاب والحِكمة، وهاجر إلى المدينة النبوية بعد خروج النبي عليه الصلاة والسلام من مكة، وأمره بقضاء ديونِه وردِّ ودائِعِه ثم يلحق به، ولازم عليٌّ النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة وبعدها، وكان ممن يكتب للنبي عليه الصلاة والسلام، وعرض عليه القرآن وأقرأه، وزوَّجَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء الأمة، وولِدتْ له الحسن والحسين السِّبطين رضي الله عنهما اللَّذَينِ كان النبي عليه الصلاة والسلام يحبهما، وقال: ((هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا))، وكان بيت عليٍّ قريبًا من بيوت النبي، ودعا له النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة، وبشَّرَه بالجنة، وحين توفي النبي عليه الصلاة والسلام كان عليٌّ ممن تولَّى غَسْلَه وتكفِينه وإدخالَه قبرَه.     

كان عليٌّ رضي الله عنه ممن يُعلِّم الناس القرآن والسُّنَّة في حياة النبي وبعد موته، وكان يَقضي بين الناس ويُفتيهم، قال سعيد بن المسيب: (ما كان أحدٌ من الناس يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه). 

وعليٌّ هو الإمام الرابع بعد الأئمة الثلاثة الخلفاء الراشدين، وهو أكثرهم رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان عابدًا خاشعًا، زاهدًا متواضعًا، خطيبًا فصيحًا، صابرًا حكيمًا، ودُودًا بشُوشًا مع المؤمنين، شديدًا على الكافرين والمنافقين، وكان من أشجع الصحابة رضي الله عنهم، وهو أحد المبارِزين يوم بدر الذين أنزل الله فيهم: {{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}} [الحج: 19]، وقتل كثيرًا من المشركين المحاربين، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ من الغزوات، وبعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن داعيًا إلى الله وقاضيًا وأميرًا، واستخلفه على المدينة في غزوة تبوك، فقال: أَتُخَلِّفُنِي في الصبيان والنساء؟! فقال عليه الصلاة والسلام: «((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟))» ، قال العلماء: يعني حين استخلف موسى هارون عليهما الصلاة والسلام عندما ذهب إلى الطور كما قال الله تعالى: {{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}} [الأعراف: 142].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ))، وقال عمر: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض)، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: {((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ))} ، فلما أصبح الناس غَدَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: ((أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟))، فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، فلما جاء بصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، ففتح الله على يديه.  

وصح من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {((مَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيًّا فَقَدْ أَبْغَضَنِي))} ، وروى مسلم في صحيحه عن علي قال: «(عَهِد إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يُحِبُّني إلا مؤمن، ولا يُبغِضُني إلا منافق)» ، وهكذا جميع الصحابة رضي الله عنهم لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ))، فمن الإيمان حب المؤمنين، وبغض الكافرين والمنافقين، ولا يجوز بغض المؤمنين، لا سيما الصحابة وأهل بيت النبي، روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يُدعى خُـمًّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «((أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي))» ، قال العلماء: المراد بالتذكير بأهل البيت: الوصيةُ بهم، ومحبتُهم، ومعرفةُ حقهم وفضلهم، وتركُ ظلمهم، وكرَّر ذلك ثلاث مرات زيادة للتأكيد، فهو أمرٌ ثقيلٌ على كثير من المسلمين.

وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ))، وهو حديث متواتر، قال البيهقي: “لـمَّا بعث النبي عليه الصلاة والسلام عليًّا إلى اليمن مع بعض الصحابة فاشتكوا منه، وأظهروا بُغضه؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصَه به، ومحبتَه إياه، ويحثهم بذلك على محبته وموالاته، وترك معاداته، والمراد به ولاءُ الإسلام ومودتُه، وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضًا، لا يعادي بعضهم بعضًا”، ويدل على ذلك قوله تعالى: {{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}} [التوبة: 71]، وقوله سبحانه: {{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}} [المائدة: 55]، وهذه الآية عامة في كل مؤمن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وأول من يدخل في عمومها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومن الخطأ اعتقاد أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وحده، فقد جاءت الآية بصيغة الجمع، فلم يقُلِ الله: (والذي آمن الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وهو راكع)، وإنما قال: {{وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}} ، ولا يصح ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في علي رضي الله عنه، وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع، فهذه الرواية لا تصح كما بيَّن ذلك علماء الحديث، وقد صح عن التابعي الجليل أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه فسر هذه الآية بأنهم جميع الذين آمنوا، فقيل له: بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب، فقال: (عليٌّ من الذين آمنوا)، وبيَّن المفسرون أن قوله تعالى: {{وَهُمْ رَاكِعُونَ}} ثناءٌ على المؤمنين بالركوع، ولا تدل الآية على أنهم يُزكُّون حال ركوعهم، فإنه لا يجوز الانشغال في الصلاة بإخراج الزكاة.

قال ابن تيمية: “شهد النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه أنه يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، وهو من كبار السابقين الأوَّلين من المهاجرين، وممن نصر الله الإسلام بجهاده، وموالاةُ عليٍّ واجبةٌ على كل مؤمن، وكون عليٍّ مولى كلِّ مؤمن هو وصفٌ ثابت لعليٍّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات عليٍّ، فعليٌّ اليوم مولى كلِّ مؤمن، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتًا، ومحبةُ أهل البيت فرضٌ واجبٌ يُؤجَر عليه المسلم”.

أيها المسلمون، كان عليٌّ رضي الله عنه من أعوان الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبله، بايعهم مُقِرًّا بخلافتِهم وإمامتِهم، وكان من وزرائهم ومستشاريهم، وكان ينصح لهم، ويُحبهم ويُجلهم، ويشهد بفضلِهم، وسمى بعض أبنائه بأسمائهم، ولا يجوز اعتقاد أن عليًّا كان الوصي، وأن الصحابة لم يعملوا بوصية النبي، قال الحافظ المؤرِّخ ابن كثير: “كان أمير المؤمنين عليٌّ أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان رابع الخلفاء الراشدين، والقول بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى إلى علي بالخلافة كذبٌ وبُهتٌ وافتراءٌ عظيم، يلزم منه تخوين الصحابة”.

أيها المسلمون، من الخطأ دعوى العِصمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودعوى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يَخُصه بشيءٍ من العلم دون غيره من الصحابة، فالنبي بُعِث مُعلِّمًا للناس عامة، وهو رحمة للعالمين، روى مسلم في صحيحه عن أبي الطُّفَيل عامر بن واثِلة قال: كنت عند علي بن أبي طالب فأتاه رجلٌ فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إليك، فغضب عليٌّ وقال: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إليَّ شيئًا يكتمه الناس).

وقد صح عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: (ليُحِبُّني قومٌ حتى يدخلوا النار في حُبِّي، وليُبْغِضُني قومٌ حتى يدخلوا النار في بُغضي)، أي: من الناس من يدخل النار بسبب الغلو في حبه، ومن الناس من يدخل النار بسبب بغضه.  

أيها المسلمون، تولى عليٌّ الخلافة بعد استشهاد عثمان، وكانت خلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وقعت فيها فتنة كبرى، وأحداثٌ لم يكن يريدها، فقد تخلَّف عن بيعته أهل الشام مطالبين بالقِصاص من قَتَلةِ عثمان الذين بايعوا عليًّا بعد قتل عثمان مع من بايعه من الصحابة والتابعين، وكان عليٌّ يريد أولًا جمع كلمة المسلمين على الخليفة، ثم بعد ذلك ينظر في أمر قَتَلة عثمان حين يتمكن منهم، فقد كانوا جمعًا كثيرًا من مصر والعراق نحو الألفين، ولم يكن عليٌّ يعلم أعيانهم، وكانوا مختلطين بجيشه، وكانوا أصحاب فتنة، وخَرجَتْ أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة للمطالبة بالقِصاص من قَتَلة عثمان والإصلاح بين الناس، فخرج عليٌّ إلى العراق، وانتهى الأمر بالقتال بين جيش علي وجيش عائشة في معركة الجَمَل سنة 36 للهجرة، وكان الذي أثار القتال قتَلَةُ عثمان الذين كانوا في جيش عليٍّ، وانتصر جيشُ عليٍّ بعد قتالٍ شديدٍ لم يكن يُريدُه عليٌّ ولا عائشة رضي الله عنهما، وقال عليٌّ لابنه الحسن بعد أن رأى كثرة القتلى: (ليت أباك مات منذ عشرين سنة)، وصلَّى عليٌّ على قتلى الفريقين رحمهم الله أجمعين، وثبت عن علي أنه قال: (إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل: {{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}} [الحجر: 47])، ثم وقعت معركة صِفِّين سنة 37 للهجرة بين جيش الخليفةِ عليٍّ وجيش أميرِ الشامِ معاويةَ ابنِ عمِّ عثمان، وكانت من أعنف المعارك التاريخية، ثبت الجيشان، واستمرَّ القتال عدة أيام، وفي بعض الأيام استمر القتال ليلًا ونهارًا، وكان عليٌّ يقاتل أهل الشام على أنهم بُغاةٌ متأوِّلون لا مرتدون ولا منافقون، فقد أخبر الله سبحانه أن المؤمنين قد يحصل بينهم قتالٌ وبغيٌ وظلمٌ فقال: {{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}} [الحجرات: 9، 10]، وصح عن علي رضي الله عنه أنه سُئل عن أهل الجَمَل فقال: (إخوانُنا بَغوا علينا فقاتلناهم)، وكان عمار بن ياسر رضي الله عنهما في جيش علي، فسمع بعضَ الجيش يُكفِّرون أهل الشام، فقال عمارٌ: (لا تقولوا: كفرَ أهلُ الشام، دينُنا واحد، وقبلتنا واحدة، ودعوتنا واحدة، ولكن قومٌ بغوا علينا فقاتلناهم)، وفي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ))، وقتل أهلُ الشام عمارًا، وسماهم النبي عليه الصلاة والسلام فئة باغية لا كافرة ولا منافقة، وانتهت معركةُ صِفِّين بالهُدنة والتحكيم حَقْنًا لدماء المسلمين بعد أن قُتِل عشراتُ الآلاف من الفئتين، وكانت فتنة عظيمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون، {{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}} [البقرة: 253]، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ))» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «((تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ))» ، وتحقق ذلك حين خرج من جيش عليٍّ طائفةٌ مارقةٌ غُلاةٌ جَهَلةٌ كَفَّروا عليًّا ومعاوية وجيشهما، وكان منهم بعض الذين خرجوا على عثمان، وهم أول الخوارج الذين يستحلون قتلَ أهلِ الإسلام، فسفكوا الدم الحرام، فقاتلهم عليٌّ في معركة النَّهْروان سنة 38 للهجرة وانتصر عليهم، وقتل جيشُه أكثرهم، ثم كتب الله لعلي رضي الله عنه الشهادة بيد الشَّقِي عبدِ الرحمن بن مُلْجَم المرادي الكوفي أحد الخوارج، فقتل عليًا في مسجد الكوفة قبل صلاة الفجر في شهر رمضان سنة 40 للهجرة، وعمره 63 عامًا تقريبًا.

أيها المسلمون، يجب أن نُحسن الظن بالصحابة، فقد زكَّاهم الله في كتابه في آيات كثيرة، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم، ومضاعفة حسناتهم، ولا أحد معصوم من الذنب والخطأ غير الأنبياء، والصحابة بشرٌ يصيبون ويخطئون ويذنبون، وقد وعد الله الذين أنفقوا منهم وجاهدوا بالجنة وإن تأخر إسلامهم إلى بعد فتح مكة، قال الله سبحانه: {{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}} [الحديد: 10]، وأمرنا الله أن نستغفر للمؤمنين ذنوبهم وأخطاءهم، لا أن نطعن فيهم ونسبهم، ولا يجوز التعصب لبعضهم على بعض فيما جرى بينهم، قال الله تعالى: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}} [محمد: 19]، وبعد أن ذكر الله المهاجرين والأنصار قال عز وجل: {{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} } [الحشر: 10].

اللهم اغفر لنا وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وصل وسلم على نبينا محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الاستمرارية: فريضة القلب في زمن التقلب

منذ حوالي ساعة ليس المطلوب أن تصل في يوم، بل أن تواصل كل يوم. هذه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *