ومن وجوه إعجاز القرآن ما يسمى بالإعجاز العلمي، والناس في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم على ثلاثة أصناف، طرفين ووسط
القرآن الكريم معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الخالدة، ولا يمكن للبشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، ولا نهاية لوجوه إعجازه، فهو معجز في بلاغته وفصاحته، وفي تشريعه، وفي أخباره، فأخباره صادقة، وأحكامه عادلة، ولا يمكن لأحد أن يأتي بمثله، ومن وجوه إعجاز القرآن ما يسمى بالإعجاز العلمي، والناس في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم على ثلاثة أصناف، طرفين ووسط:
الطرف الأول: قوم بالغوا في إثبات الإعجاز العلمي في القرآن، وتكلفوا في حمل كثير من الآيات على بعض الحقائق العلمية مع عدم احتمال اللفظ القرآني لما ذهبوا إليه، بل وفسروا بعض الآيات القرآنية وفق بعض النظريات التي لم تثبت بالأدلة القطعية، وهؤلاء أفرطوا وتكلفوا.
الطرف الثاني: قوم نفوا الإعجاز العلمي في القرآن الكريم جملة وتفصيلًا، وهؤلاء فرَّطوا وقصَّروا، وبعضهم قد يثبت الإعجاز العلمي في السنة النبوية دون القرآن الكريم، مع أن كليهما وحي من الله سبحانه، فتناقضوا.
الطرف الوسط: قوم توسطوا، فأثبتوا من الإعجاز العلمي ما احتمله لفظ القرآن بلا تكلف، بشرط أن يكون الإعجاز في حقيقة علمية لا نظرية قابلة للقبول والرد، فإن ثبت الإعجاز فسروا الآية بما فسرها السلف أولًا بالإضافة إلى المعنى الجديد، فإن القرآن الكريم حمَّال أوجه، مثال ذلك قوله سبحانه: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} } [النساء: 56]، ذكر بعض العلماء المتخصصين في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم أن هذه الآية سبقت العلوم الطبية الحديثة التي أثبتت أن مكان الإحساس بالألم من جسم الإنسان هو الجلد دون اللحم الذي تحت الجلد، وهذه الآية تدل على ذلك، فهي إعجاز علمي واضح.
فما احتمله لفظ القرآن موافقًا لقواعد اللغة وغير مخالف لما ثبت في الكتاب والسنة؛ فإنه مقبول سواء كان هذا القول قديمًا أو جديدًا؛ فإن القرآن العظيم لا تنقضي عجائبه، قال ابن الحاج في المدخل (1/75): “عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد له أن يأخذ منه فوائد جمة خصه الله بها، وضمها إليه؛ لتكون بركة هذه الأمة مستمرة إلى قيام الساعة”.
فالموقف الصحيح من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم أن يُقبل منه ما احتمله لفظ القرآن موافقًا لقواعد اللغة العربية، ولم يخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، مما ثبت من الحقائق العلمية دون النظريات الظنية.
ومثل ذلك ما يذكره بعض العلماء من إشارات واستنباطات وهدايات قرآنية تدل عليها الآيات، قال ابن القيم في كتابه التبيان في أقسام القرآن (ص: 79): “تفسير الناس يدور على ثلاثة أصول: تفسير على اللفظ، وهو الذي ينحو إليه المتأخرون، وتفسير على المعنى، وهو الذي يذكره السلف، وتفسير على الإشارة والقياس، وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم، وهذا لا بأس به بأربعة شرائط: أن لا يناقض معنى الآية، وأن يكون معنى صحيحًا في نفسه، وأن يكون في اللفظ إشعار به، وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطًا حسنًا”.
وما أكثر الهدايات والاستنباطات من القرآن العظيم! والمطلع على كتب التفسير يجد كثرة ما يفتح الله به من هدايات واستنباطات على المفسرين المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، قال الحافظ الذهبي رحمه الله في معجم شيوخه عن شيخه ابن تيمية: “وبرع في التفسير والقرآن، وغاص في دقيق معانيه، بطبع سيّال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميّال، واستنبط منه أشياء لم يُسبَق إليها”.
فالاستنباط يجوز من القرآن الحكيم بشرطين هما:
الشرط الأول: أن يحتمل المعنى المستنبط ظاهر لفظ القرآن، بما يوافق قواعد اللغة العربية في الإفراد والتركيب.
الشرط الثاني: أن لا يخالف المعنى المستنبط صريح القرآن أو السنة الصحيحة، فإن القرآن حق يصدق بعضه بعضًا، والسنة حق توافق القرآن ولا تخالفه، فمن أتى باستنباط أو معنى جديد يخالف ما قرره القرآن أو السنة الصحيحة فإنه خطأ يقينًا لا يُقبل بحال، وأما إن أتى باستنباط أو معنى جديد يحتمله لفظ القرآن ولا يخالف ما قرره القرآن أو السنة الصحيحة فإنه يُقبل؛ لأن من خصائص القرآن الكريم أنه حمَّال أوجه، وهذا من عظمة القرآن المجيد، فالآية الواحدة قد تُفسَّر بأكثر من قول إن كانت تلك الأقوال معانيها صحيحة ويحتملها اللفظ القرآني بما يوافق قواعد اللغة العربية.
مثال ذلك:
- قوله تعالى: {﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ } [البروج: 10] أي: عذاب جهنم في الآخرة، وعذاب الحريق في البرزخ، فإن الأصل في العطف التغاير، فيكون هذا دليلًا على إثبات عذاب القبر، لم أجد من ذكر هذا المعنى من المفسرين، ثم رأيت ابن عاشور في تفسيره أشار إلى هذا، والحمد لله على توفيقه.
- دليل من القرآن على أن الإنسان مسيَّر ومخيَّر لم يذكره المؤلفون في العقائد: يذكر علماء أهل السنة أن الإنسان مسير ومخير في نفس الوقت، ويستدلون بقوله تعالى: {﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ } [التكوير: 28، 29] حيث أثبت الله للإنسان مشيئة لكنها تحت مشيئة الله، وقد وجدت دليلًا آخر على هذا، وهو قوله سبحانه: { ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾} [الشمس: 7، 8] حيث ذكر الله أنه هو الذي ألهم النفس فجورها وتقواها، فهو الذي قدَّر ذلك قبل أن يخلقها، ومع هذا نسب الله الفجور والتقوى للعبد، فالإنسان هو الذي فجر أو اتقى، فالدليل على أنه مسيَّر قوله: { ﴿فألهمها﴾} ، والدليل على أنه مخيَّر قوله: { ﴿فجورها وتقواها﴾} ، ففعل العبد يُنسب إلى الله خلقًا وتقديرًا، ويُنسب للعبد فعلًا واختيارًا، وقد ضل من جعل العبد مسيَّرًا فقط كالشعرة في مهب الريح، وهم الجبرية، وضلت القدرية الذين جعلوا العبد مخيَّرًا فقط ونفوا تقدير الله لأفعال العباد، وهو الذي خلق كل شيء بقدر، وعلم كل ما سيكون، ولا يكون في ملكه إلا ما يشاء سبحانه وتعالى.
- دلالة القرآن على براءة كلِّ من صحب النبي في حجة الوداع من النفاق، قال الله تعالى: {﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ } [التوبة: 83]، قال المفسرون: أي: فإن أرجعك الله – يا نبي الله – إلى طائفة من المنافقين فاستأذنوك للخروج معك للجهاد فقل لهم عقوبة لهم: لن تصحبوني في أي سفر للجهاد أو النسك أبدا ولن تقاتلوا معي عدوًا من الأعداء أبدًا. فيُستنبط من هذه الآية: أن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فهو بريء من النفاق، فإن الله أمر رسوله أن يخبر المنافقين بعدم تشرفهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من غزوة تبوك في أي سفر من أسفاره أبدًا، وقد نزلت هذه الآية من سورة التوبة بعد غزوة تبوك سنة 9 للهجرة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة 10 من الهجرة، وخرج معه عشرات الآلاف من أصحابه الكرام، فكلهم بريء من النفاق بشهادة هذه الآية؛ فإن الله أخبر أن المنافقين لن يخرجوا مع رسوله أبدًا في أي سفر من أسفاره.
- في القرآن الكريم آيةٌ تبين صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قال الله تعالى: { ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ } [الفتح: 16]، أمر الله رسوله أن يُخبر المخلَّفين من الأعراب أنه سيدعوهم إلى الجهاد غيره بعد موته، وأنه يجب عليهم طاعة من سيدعوهم من الأئمة بعده إلى قتالِ قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ من الكفار، وهم المرتدون من العرب، وفارس والروم، وغيرهم من أهل الكفر، قال العلماء: الذين دعوا الناس إلى قتال قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ يقاتلونهم أو يسملون هم أبو بكر وعمر وعثمان، الذين دعوا الناس للجهاد في سبيل الله، فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب والروم والفُرس، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفُرس، ودعاهم عثمان إلى قتال الروم والفُرس والتُّرك، فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن، فدلت هذه الآية على صحة إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم، وقد ذكر هذا غير واحد من العلماء من المفسرين كالجَصَّاص الحنفي وابن حزم الأندلسي والواحدي والزمخشري والقرطبي وغيرهم.
Source link