في مديح الصُحبة – طريق الإسلام

في زمنٍ كثر فيه التجمّع وقلّ فيه التآلف، صارت بعض القلوب لا تعرف القرب إلا لحاجة، ولا تصاحب إلا لمصلحة، فإذا انقضت الحاجة، انقضى معها الودّ، وإذا ذهبت المنفعة، ذهبت معها المودّة، وكأن الأرواح ما تعارفت، ولا الصحبة ما انعقدت.

في زمنٍ كثر فيه التجمّع وقلّ فيه التآلف، صارت بعض القلوب لا تعرف القرب إلا لحاجة، ولا تصاحب إلا لمصلحة، فإذا انقضت الحاجة، انقضى معها الودّ، وإذا ذهبت المنفعة، ذهبت معها المودّة، وكأن الأرواح ما تعارفت، ولا الصحبة ما انعقدت.

وهذا لونٌ من القرب ينهك القلب، ويُربك الفطرة؛ لأنه محكومٌ بما يُؤخذ لا بما يُمنَح، وبما يُنتظر لا بما يُبذَل، فهو لا يدوم، ولا يُثمر، ولا يُبقي من الأثر إلا خيبةً وندمًا، ومن رحمة الله أن جعل في المحبة الخالصة لوجهه متنفسًا للقلب، وطريقًا للنجاة، ومهوًى للروح لا يُلوّثه التكسّب، ولا تُشوبه المصلحة.

وليست كلُّ الروابط تُرى، ولا كلُّ الأيادي تُمسَك، فثمّة تآلفٌ لا تصنعه المجالس، ولا تنسجه المصالح، بل يُخلَق في الغيب، ويُسقى بالصدق، ويُثمر على باب الجنّة، اسمه: الحبّ في الله؛ ذلك الحبّ الذي لا يذبل إن بَعُد اللقاء، ولا يتكسر إن طال الغياب، لأنه مشدود بحبلٍ من الله، لا تنقطع خيوطه حين تضعف الأسباب.

هو حبٌّ لا يُزاحم، لا يُساوَم، لا يُساء به الظن، حبٌّ إذا ذبلت فيك الأيام، سقاك دعاء في الغيب، وإذا عثرت بك الدنيا، أسندك قلبٌ لم تطلب منه شيئًا، إلا أن يبقى معك، إلى الجنة، حبٌّ تُسنده النوايا الصافية، وتثبّته كلمات الخير، ويزكّيه الحرص على النجاة معًا، مصداقًا لقوله ﷺ: «ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان… أن يحبّ المرءَ لا يحبّه إلا لله…» (رواه البخاري ومسلم).

وما اجتمعت عليه النفوس من هذا الباب، إلا كان أعظم القُرَب، إذ يورث الله بها لصاحبها ظلاً يوم تنحسر الظلال كما قال ﷺ: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه… ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه» (رواه البخاري ومسلم).

والناس في ذلك مراتب؛ فأكرمهم من أحبّ في الله بصدق، لا يزداد مع العطاء، ولا ينقص مع الجفاء، بل هو وفاءٌ يورث الدعاء، ومودّةٌ تُطوى في الغيب، تخرج وقت الحاجة كالسحابة الباردة.

وفي بعض الأرواح عطشٌ لا يرويه إلا صديقٌ صادق، يحبّك لدينك، ويخشى عليك من النار كما يخشى على نفسه، لا يريد شهرةً ولا منفعة، بل يريد أن يراك معه في الجنّة، ولا يرضى لك سواها، وصدق الكندي حينما قال: الصديق هو أنت إلا إنه غيرك. (1).

ومن رام هذا الحب، فليزرع في قلبه النية، وفي لسانه الذكر الحسن، وفي فعله النصيحة، فإن الحب في الله لا يُنال بكثرة الكلام، بل بحُسنِ العمل وصفاءِ السريرة، فقد جاء في الحديث: «والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا…» (رواه مسلم).

________________________________________________
(1) المقابسات – التوحيدي – ٣٥٩


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

حين تجهل ما يؤلمك – طريق الإسلام

القرآن – يا صاحبي – لا ينتظر أن تُسمّي وجعك، هو يعرفه قبلك، ويُلامسه فيك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *