نذر ترك المعصية – خالد عبد المنعم الرفاعي

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن نذر ترك المعصية هو أن يمنع الناذر فيه نفسه من فعل شيء محرم كالزنا، بالتزام فعل قربة معينة إن فعل تلك المعصية، كقول الناذر: إن نظرت إلى امرأة أجنبية فعليّ حج أو صوم شهر، أو غيرهما.

ومعلوم أن قصده الناذر (الحالف) ليس القربة إلى الله، وإنما مراده ومقصوده وهو منع النفس من الوقوع في المعصية، فهو نذر يمين، ويسمى نذر اللجاج والغضب؛ إذا كان قصده أن لا يكون الشرط ولا الجزاء. ولذلك فإن موجبَه عند الحنث كفارة يمين؛ يبينه أنه لو حلف على ذلك بالله سبحانه وتعالى وبرّ لم تلزمه الكفارة، وإن حنث تلزمه الكفارة.

ومن القواعد المقررة أن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال، فلا تراعى الصورة وتلغى الحقيقة، وأن الألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني، فإذ ظهرت المعاني والمقاصد ترتبت عليها أحكامها، ولا عبرة بالألفاظ حينئذ؛ لأنها وسائل.

جاء في “إعلام الموقعين عن رب العالمين” (2/ 88) -في معرض كلامه عن نذر اللجاج والغضب-: “… فقصده ألا يكون الشرط فيها ولا الجزاء، ولذلك يسمى نذر اللجاج والغضب، فلم يلزمه الشارع به إذا كان غير مريد له ولا متقرب به إلى الله، فلم يعقده لله، وإنما عقده به، فهو يمين محْضة، فإلحاقه بنذر القربة إلحاق له بغير شَبهه، وقطع له عن الإلحاق بنظيره. وعُذر من ألحقه بنذر القربة شَبَهه به في اللفظ والصورة، ولكن المُلحقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني؛ وقد اتفق الناس على أنه لو قال: “إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني”، فحنث= أن لا يَكفر بذلك إن قصد اليمين؛ لأن قصد اليمين منع من الكفر، وبهذا وغيره احتج شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب، وكالحلف بقوله: “إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني”، وحكاه إجماع الصحابة في العتق، وحكاه غيره إجماعًا لهم في الحلف بالطلاق على أنه لا يلزم.

قال: لأنه قد صح عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ولا يعرف له في الصحابة مخالف – ذكره ابن بزيزة في شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي”. اهـ.

وقال ابن قدامة في “المغني” (13/622): “النَّذْرُ الَّذِي يُخْرِجُهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، لِلْحَثِّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ، غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ لِلنَّذْرِ وَلا الْقُرْبَةِ= فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ”. اهـ.

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا كفارة عليه، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى وجوب الكفارة؛ لأن اسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه وإن كان نذرًا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم “النذر حلفة”، وقوله: “كفارة النذر كفارة اليمين”، وهو قول جماعة من الصحابة للذي نذَر نذْر اللجاج والغضب: “كفر يمينك”.

جاء في  كتابه “نظرية العقد = العقود” (1/ 59-60): “ثبت عن عمران وابن عباس أنهما أمرا بكفارة يمين في نذر المعصية والعجز، وهما اللذان رَويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوفاء في هذا النذر، وكذلك غيرهما من الصحابة مثل عقبة بن عامر، وهو الذي روى حديث أخته، وكان يقول: “النذر حلف”، ورَوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كفارة النذر كفارة يمين”، وكذلك سمرة بن جندب وعمر وغيرهم، لا أعلم من الصحابة من أسقط النذر مطلقًا بلا بدل ولا كفارة، لا في عجز ولا في معصية. فدل هذا على أنه كان من المعلوم عندهم أن من لم يوف يُكَفِّر، كما كان من المعلوم عندهم أن من لم يوف بيمينه يكفر؛ لأن نبيهم صلى الله عليه وسلم بلغهم عن الله: “أن كفارة النذر كفارة يمين”، ولأنهم قد فهموا من كتاب الله أن من حرّم حلال الله فعليه كفارة يمين أو غيرها.

ولهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه جعل تحريم الحلال لغوًا، بل جمهورهم كانوا يجعلونه يمينًا، ويجعلون فيه الكفارة المغلظة كفارةَ الظهار، أو الكفارة الأخرى وهي كفارة اليمين المطلقة؛ كما نقل ذلك عن الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، وعن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ومنهم من كان يجعله طلاقًا كما نقل عن عليّ وزيد وابن عمر، ولم ينقل عن أحد منهم أنه جعله لغوًا، لكن بعض التابعين قال ذلك كما نقل عن مسروق. فدلت الآثار المنقولة عن الصحابة على أن تحريم الحلال عندهم عقد من العقود فيه الكفارة أو الطلاق، والنذر عقد من العقود كما أن اليمين المعروفة عقد من العقود، وأن هذه الأيمان جميعًا لا بد فيها من البِر أو الكفارة.

ولكن الذين بعدهم لم يكن لهم فقهُهُم وعلمهُم فظنوا أن بعض ذلك خارج عن مسمَّى اليمين، فمنهم من أخرج تحريم الحلال، ومنهم من أخرج النذر، ومنهم من أخرج بعض الأيمان”. اهـ.

إذا تقرر هذا علم أن نذر ترك المعاصي ينعقد، وهو في معنى اليمين، ويعرف بنذر اللجاج، وتجب فيه كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، والإطعام يكون مما يأكله الناس،، والله أعلم.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

حكم الاستشهاد بأقوال غير المسلمين الداعمة لحقوق الإنسان – الشبكة الإسلامية

مشروط بإصابة الحق، وموافقة الشرع، وإلا فما خالفه لا يجوز الاستشهاد به ونشره، حتى ولو قاله مسلم!، والأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *