منذ حوالي ساعة
مهمة البلاغ ليست مهمة هينة؛ بل هي فتنة وابتلاء ابتلى الله بها أنبياءه، وابتلى بها بعدهم أتباعهم وورثتهم، فمنهم من قام بذلك على أكمل وجه وأتمه، ومنهم من كتم وبدَّل أو تأوّل على وجه غير معتبر
يقرأ كثيرون قول الله تعالى: {ما عَلَى الرَّسولِ إِلَّا البَلاغُ}؛ فيتبادر لأذهانهم معنى: إعذار النبي ﷺ في إعراض المعرضين، وهو صحيح، ولا ينتبهون لمعنى عظيم يتضمنه هذا النص القرآني، وهو: عِظَمُ الابتلاء للنبي ﷺ بمهمة البلاغ.
من أعظم الابتلاءات التي اُبتلي بها أنبياء الله تعالى، واُبتلي بها أتباعهم وورثتهم من العلماء: تبليغ أوامر الله تعالى وشرعه، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، وامتحانهم في ذلك.
روي عن عائشة وأنس رضي عنهما بأسانيد صحيحة، أنهما قالا: “لو كان رسول الله ﷺ كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذ تَقولُ لِلَّذي أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِ وَأَنعَمتَ عَلَيهِ أَمسِك عَلَيكَ زَوجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخفي في نَفسِكَ مَا اللهُ مُبديهِ وَتَخشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخشاهُ فَلَمّا قَضى زَيدٌ مِنها وَطَرًا زَوَّجناكَها لِكَي لا يَكونَ عَلَى المُؤمِنينَ حَرَجٌ في أَزواجِ أَدعِيائِهِم إِذا قَضَوا مِنهُنَّ وَطَرًا وَكانَ أَمرُ اللهِ مَفعولًا} [الأحزاب: ٣٧]، وذلك لشدتها عليه بأبي وأمي هو ﷺ.
وهذه الآية نزلت لحكمة عظيمة، وتقدير إلهي حكيم، وهو: أن الله سبحانه أراد أن يبين لعباده أن الأدعياء (الأولاد بالتبني) ليسوا في حكم الأبناء حقيقة من جميع الوجوه؛ ولأن هذا الأمر كان كالمستقر في أعراف الناس وشؤونهم، أراد الله أن يكون النبي الكريم ﷺ والقدوة العظمى لهذه الأمة هو النموذج العملي لإلغاء هذا العرف السائد بزواجه من زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة بعد طلاقها (وقد كان زيدٌ ابنَ رسول الله ﷺ بالتبني أول الأمر، حتى أنه كان يُدعى: زيد بن محمد)، ووقع في نفس رسول الله ﷺ أنه إن طلقها زيد فسيتزوجها؛ فجرى الأمر على ما أراد الله، وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه.
يقول ابن جرير الطبري في تفسير الآية: “يقول تعالى ذكره لنبيه ﷺ عتابا من الله له ﴿و﴾ اذكر يا محمد {إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ} بالهداية {وَأنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ {أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ} وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذكر رآها رسول الله ﷺ فأعجبته، وهي في حبال مولاه، فألقِي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ زيد، فقال له رسول الله ﷺ: {أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وهو ﷺ يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها {وَاتَّقِ اللهَ} وخف الله في الواجب له عليك في زوجتك {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} يقول تعالى ذكره: وتخاف أن يقول الناس: أمر رجلا بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها، والله أحق أن تخشاه من الناس”.
شاهد الأمر: أن مهمة البلاغ ليست مهمة هينة؛ بل هي فتنة وابتلاء ابتلى الله بها أنبياءه، وابتلى بها بعدهم أتباعهم وورثتهم، فمنهم من قام بذلك على أكمل وجه وأتمه، ومنهم من كتم وبدَّل أو تأوّل على وجه غير معتبر، وقد ذمَّ الله تعالى كفار أهل الكتاب بذلك ولعنهم في غير موضع من كتابه الكريم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ يَكتُمونَ ما أَنزَلنا مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الكِتابِ أُولئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلعَنُهُمُ اللّاعِنونَ}[البقرة: ١٥٩]، وآيات أخرى.
ولشدة هذا الابتلاء وقوته قال الله تعالى بعد آية سورة الأحزاب -التي بلَّغها رسولنا ﷺ كما سمعها- مثنيًا على أنبيائه ورسله، مادحًا لهم، ومبينًا فضلهم وصبرهم وعادتهم في البلاغ: {ٱلَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسَـٰلَـٰتِ ٱللهِ وَیَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا یَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللهِ حَسِیبࣰا}.
وتأمل ختام الآية {وَكَفَىٰ بِٱللهِ حَسِیبࣰا} فإنها تتضمن معنى المحاسبة ومعنى الكفاية، ليكون المؤمن على حذر من مخالفة هذه الحال وكتمان شيء من وحي الله تعالى وشرعه فهو سبحانه بما له من العظمة والجلال هو المحاسب لعباده المجازي لهم، وهو أيضا: الكافي لأوليائه من كل ما يخشونه ويخافونه عند قيامهم بهذه المهمة العظيمة!
اللهم أعن أهل العلم على بلاغ الحق والقيام به.
__________________________________________
الكاتب: فيصل بن تركي
Source link