فاعتذر إليه ﷺ – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

فليس تخطئ عينك حين تنظر في السيرة النبوية، والأحاديث الرسالية؛ أن ترى أحاديث اعتذار النبي ﷺ لصحابته حين يقع الشيء يحتاج لبيان سببه، وكشف تفصيله.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فليس تخطئ عينك حين تنظر في السيرة النبوية، والأحاديث الرسالية؛ أن ترى أحاديث اعتذار النبي ﷺ لصحابته حين يقع الشيء يحتاج لبيان سببه، وكشف تفصيله.

وربما كان هذا الأمر أمرًا دينيًا مما أتت به الشريعة، ومع ذلك كان النبي ﷺ يجتهد أن يبين للصحابة وجهه، حتى تطيب قلوبهم، فلا تحزن، ففي الصحيحين ﻋﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻗﺎﻝ: ﺑﻌﺜﻨﻲ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻪ، ﻓﺎﻧﻄﻠﻘﺖ، ﺛﻢ ﺭﺟﻌﺖ ﻭﻗﺪ ﻗﻀﻴﺘﻬﺎ، ﻓﺄﺗﻴﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، فسلمت ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻠﻢ ﻳﺮﺩ ﻋﻠﻲ، ﻓﻮﻗﻊ ﻓﻲ ﻗﻠﺒﻲ ﻣﺎ اﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﻪ، ﻓﻘﻠﺖ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻲ: ﻟﻌﻞ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻭﺟﺪ ﻋﻠﻲ ﺃﻧﻲ ﺃﺑﻄﺄﺕ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ ﺳﻠﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻠﻢ ﻳﺮﺩ ﻋﻠﻲ، ﻓﻮﻗﻊ ﻓﻲ ﻗﻠﺒﻲ ﺃﺷﺪ ﻣﻦ اﻟﻤﺮﺓ اﻷﻭﻟﻰ، ﺛﻢ ﺳﻠﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺮﺩ ﻋﻠﻲ، ﻓﻘﺎﻝ ﷺ: «ﺇﻧﻤﺎ ﻣﻨﻌﻨﻲ ﺃﻥ ﺃﺭﺩ ﻋﻠﻴﻚ ﺃﻧﻲ ﻛﻨﺖ ﺃﺻﻠﻲ»، ﻭﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺭاﺣﻠﺘﻪ ﻣﺘﻮﺟﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻏﻴﺮ اﻟﻘﺒﻠﺔ.

فانظر إلى النهج النبوي في بيان ما يُحتاج معه إلى ذلك، وتأمّله حين لم يقل ﷺ: لقد كنت أصلي، ولم آتِ ما يوجب اعتذارًا، ونحو ذلك من كلمات أهل اليبوسة والصلف، بل بدر جابرًا بالاعتذار، والكشف له عن سبب عدم رده عليه، هذا وقد كان جابر شابًا فتيًا، ولكنه ﷺ مع ذلك تنبه لصحابيّه، وأراد أن يجلي من قلبه ما وقع فيه من انكسار.

ولعلك أن ترى بعضهم ليس يبالي بكسر قلوب أهله وأصحابه وزملائه، ولا يبالي بعد ذلك ألا يكون معتذرًا، فلا هو يتنبّه لما يقع في قلوب من يصاحب، ولا هو يتلمس جبرها بعد كسرها.

ولقد كان ﷺ يعتذر لمن لعله هو الملوم، ممن ربما قصّر في أمر حتى كان أحق بالملام لو كان في غير صحبة نبي الرحمة ﷺ، ففي المسند وسنن أبي داود ﻋﻦ اﻟﻤﻬﺎﺟﺮ ﺑﻦ ﻗﻨﻔﺬ، ﺃنه ﺃﺗﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻭﻫﻮ ﻳﺒﻮﻝ ﻓﺴﻠﻢ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻠﻢ ﻳﺮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﺗﻮﺿﺄ، ﺛﻢ اﻋﺘﺬﺭ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻧﻲ ﻛﺮﻫﺖ ﺃﻥ ﺃﺫﻛﺮ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺇﻻ ﻋﻠﻰ ﻃﻬﺮ».

فأنت إذا رأيت هذا الحديث؛ وجدت فيه عذرًا بينًا ألا يردّ النبي ﷺ السلام، فإنّ المهاجر رضي الله عنه كان قد ألقى السلام في حال لا يُلقى فيها السلام، ومع ذلك اعتذر إليه النبي ﷺ، وكشف له وجه تأخره عن الردّ. 

وهكذا كان ﷺ يراعي نفوس صحابته أن تألم منه، حتى تراه إذا فعل فعلًا لمقصد ديني قرنه بما يزيل الوحشة من قلوب صحابته.

ففي الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ، ﻋﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺑﻦ ﺟﺜﺎﻣﺔ اﻟﻠﻴﺜﻲ، ﺃﻧﻪ ﺃﻫﺪﻯ ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺣﻤﺎﺭًا ﻭﺣﺸﻴًﺎ، ﻭﻫﻮ ﺑﺎﻷﺑﻮاء، ﺃﻭ ﺑﻮﺩاﻥ، ﻓﺮﺩﻩ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺃﻯ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ ﻗﺎﻝ: «ﺇﻧﺎ ﻟﻢ ﻧﺮﺩﻩ ﻋﻠﻴﻚ ﺇﻻ ﺃﻧﺎ ﺣﺮﻡ»، فانظر كيف لم يجعل السبب الشرعي في ردّ الهبة كافيًا، حتى أتبعه ببيان السبب الباعث على ردّ الضيافة والهدية.

وربما زاد فطيّب خاطر من يهديه بأمر زائد، كما في الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﺃﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺻﻠﻰ ﻓﻲ ﺧﻤﻴﺼﺔ ﻟﻬﺎ ﺃﻋﻼﻡ، ﻓﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻋﻼمها ﻧﻈﺮﺓ، ﻓﻠﻤﺎ اﻧﺼﺮﻑ ﻗﺎﻝ: «اﺫﻫﺒﻮا ﺑﺨﻤﻴﺼﺘﻲ ﻫﺬﻩ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺟﻬﻢ! ﻭﺃﺗﻮﻧﻲ ﺑﺄﻧﺒﺠﺎﻧﻴﺔ ﺃﺑﻲ ﺟﻬﻢ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺃﻟﻬﺘﻨﻲ ﺁﻧﻔﺎ ﻋﻦ ﺻﻼﺗﻲ».

وإنما أخذ انبجانيته -وهو كساء غليظ- لأن أبا جهم كان هو أهدى للنبي ﷺ الخميصة، كما في الموطأ: ﺃﻥّ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺯﻭﺝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻟﺖ: ﺃﻫﺪﻯ ﺃﺑﻮ ﺟﻬﻢ ﺑﻦ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ  ﷺ ﺧﻤﻴﺼﺔ ﺷﺎﻣﻴﺔ، ﻟﻬﺎ ﻋﻠﻢ. ﻓﺸﻬﺪ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺼﻼﺓ ﻓﻠﻤﺎ اﻧﺼﺮﻑ، ﻗﺎﻝ: «ﺭﺩّﻱ ﻫﺬﻩ اﻟﺨﻤﻴﺼﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺟﻬﻢ، ﻓﺈﻧﻲ ﻧﻈﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻤﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻜﺎﺩ ﻳﻔﺘﻨﻨﻲ».
فأراد أن يستعيض النبي ﷺ عن الخميصة بأي كساء من أبي جهم؛ حتى لا يردّ عليه هديته ردًا محضًا.

بل كان ﷺ يحرص على تطييب خواطر صحابته بأكثر من ذلك، فربما أهدى هو الهدية، فأوصلها لصاحبها بكمال المراعاة، ففي الصحيحين وهذا سياق البخاري، ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻣﻠﻴﻜﺔ: ﺃﻥّ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺃُﻫﺪﻳﺖ ﻟﻪ ﺃﻗﺒﻴﺔ ﻣﻦ ﺩﻳﺒﺎﺝ، ﻣﺰﺭﺭﺓ ﺑﺎﻟﺬﻫﺐ، ﻓﻘﺴﻤﻬﺎ ﻓﻲ ﻧﺎﺱ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ، ﻭﻋﺰﻝ ﻣﻨﻬﺎ ﻭاﺣﺪًا ﻟﻤﺨﺮﻣﺔ ﺑﻦ ﻧﻮﻓﻞ، ﻓﺠﺎء ﻭﻣﻌﻪ اﺑﻨﻪ اﻟﻤﺴﻮﺭ ﺑﻦ ﻣﺨﺮﻣﺔ، ﻓﻘﺎﻡ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﺎﺏ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺑﻨﻲ اﺩﻉ ﻟﻲ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، ﻓﺄﻋﻈﻤﺖ ﺫﻟﻚ، ﻓﻘﻠﺖ: ﺃﺩﻋﻮ ﻟﻚ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ؟ ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺑﻨﻲ، ﺇﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﺠﺒّﺎﺭ، ﻓﺪﻋﻮﺗﻪ ﻓﺴﻤﻊ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺻﻮﺗﻪ، ﻓﻌﺮﻑ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺻﻮﺗﻪ- ﻓﺄﺧﺬ ﻗﺒﺎء، ﻓﺘﻠﻘﺎﻩ ﺑﻪ، ﻭاﺳﺘﻘﺒﻠﻪ ﺑﺄﺯﺭاﺭﻩ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﻳﺎ ﺃﺑﺎ اﻟﻤﺴﻮﺭ ﺧﺒﺄﺕ ﻫﺬا ﻟﻚ! ﻳﺎ ﺃﺑﺎ اﻟﻤﺴﻮﺭ ﺧﺒﺄﺕ ﻫﺬا ﻟﻚ!»، ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺧﻠﻘﻪ ﺷﺪﺓ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﷺ وقال: «ﺭﺿﻲ ﻣﺨﺮﻣﺔ»!
فقد كان النبي ﷺ صاحب الفضل ابتداء في هذه الهدية -وهو صاحب الفضل دائما بأبي هو وأمي- لكنّه مع هذا حرص على تطييب خاطر هذا الصحابي، لاسيما مع كبر سنه، وشدة خلقه، فرعى له النبي ﷺ ذلك.
والله المستعان.

___________________________________________

الكاتب: د. محمد آل رميح


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

النظافة – طريق الإسلام

النظافة قيمة حضارية من قيم الحضارة الإسلامية، حثنا عليها دين الإسلام قبل أن نراها ماثلة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *