مَنْ كان يَلْحَنُ من العُلماء المشهورين – محمد بن علي بن جميل المطري

هذه رسالةٌ لطيفةٌ في ذكر بعض من كان يلحن في كلامه من العلماء المشهورين، فيخطئ في النحو والإعراب وإن كان واسع العلم في غير النحو، ولم يمنع ذلك من أخذ العلم عنه

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

               المقدمة

الحمد لله الأعز الأجل، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وصلى الله وسلم على محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فاللحْن: الخطأ، يُقال: لحَن الرجل في كلامه يلحَن لحنًا إذا أخطأ في إعراب الكلمة أو تصريفها، ويُطلَق اللَّحن أيضًا على من يخطئ في تلاوة القرآن الكريم فيقرأ الكلمة القرآنية على غير الصواب.

وهذه رسالةٌ لطيفةٌ في ذكر بعض من كان يلحن في كلامه من العلماء المشهورين، فيخطئ في النحو والإعراب وإن كان واسع العلم في غير النحو، ولم يمنع ذلك من أخذ العلم عنه، ولم يوجب ذلك الطعن في علمه، وإن كان العلم بالنحو واستقامة الكلام والكتابة على قواعد الإعراب والتصريف أكمل، وصاحبه أجل.

روى البيهقي في السنن الكبرى (2274) بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (تعلَّموا العربية).

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (29915) بإسناد حسن عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: (تعلموا العربية كما تعلَّمون حفظ القرآن).

وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 116) والبيهقي في السنن الكبرى (2274) عن نافع مولى ابن عمر قال: كان ابن عمر إذا سمع بعض ولده يلحَن ضربه.

وروى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1084) عن عمرو بن دينار أن ابن عمر وابن عباس كانا يضربان أولادهما على اللحن.

والعلماء يمدحون من لا يلحن في كلامه، ويعدون هذا من كماله، روى الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية (ص: 196) عن الحسن بن علي الحلواني أن قتادة وحماد بن سلمة وعفان بن مسلم كانوا لا يلحَنون.

وقال العِجلي في كتاب الثقات (1/ 432): “كان سليمان بن مِهران الأعمش فصيحًا لا يلحن حرفًا”.

وقال الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء (1/ 92): “سمع الأعمش إنسانًا يلحن فقال: مَن هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم؟!”.

وقال أبو عمر الداني: “كان أبو إسحاق السَّبيعي من أعلم أهل الكوفة بالنحو، ما رؤي يلحَنُ قط”. ذكره مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال (10/ 209).

وروى أبو طاهر المقرئ في أخبار النحويين (ص: 51) عن أبي مُسْهِر قال: “كان الأوزاعي لا يلحَن”.

وكان عبد الله بن المبارك لا يلحَن في كلامه كما في تاريخ جُرجَان للسهمي (ص: 410).

وروى ابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات (ص: 83) عن الأصمعي قال: “كان أبو عمرو بن العلاء لا يلحَن، يتكلم كلامًا سهلًا”.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (5/ 232): “قال علي بن جعفر السعيدي: كان يعقوب البصري أقرأ أهل زمانه، وكان لا يلحَن في كلامه”.

ونقل البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 52، 54) عن الربيع بن سليمان قال: “الشافعي لم يلحن، وكان ابن هشام صاحب المغازي يقول: الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة”.

وروى البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 44) عن أبي عثمان المازني قال: “الشافعي عندنا حجة في النحو”.

وروى ابن بطة في الإبانة الكبرى (441) بإسناده عن المرُّوذي قال: “كان أحمد بن حنبل لا يلحَن في الكلام”.

ونقل الذهبي في تاريخ الإسلام (7/ 810) عن الحاكم النيسابوري قال: “كان محمد بن يعقوب الأخرم من أنحى الناس، ما أُخِذ عليه لحنٌ قط”.

وقال الصَّفَدي في الوافي بالوفيات(22/ 179): “كان علي بن هلال الكاتب المعروف بابن البواب فاضلًا، لا يلحَن فيما يكتب”.

 

أخبار في لحن بعض العلماء والمشهورين

كان بعض العلماء والأعلام المشهورين يلحنون في كلامهم أحيانًا، ولا يقيمون الإعراب في محادثتهم دائمًا، وبعضهم كان يلحن لحنًا فاحشًا، وهذه بعض الأخبار عنهم:

روى مسلم في صحيحه (560) عن عبد الله بن أبي عَتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: تحدثت أنا والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عند عائشة رضي الله عنها حديثًا، وكان القاسم رجلًا لَحَّانَةً، وكان لأم ولد، فقالت له عائشة: «ما لك لا تحدَّثُ كما يتحدثُ ابن أخي هذا؟! أما إني قد علمت من أين أُتِيتَ، هذا أَدَّبَتْهُ أُمُّه، وأنت أدَّبَتْك أُمُّك!» .

وروى ابن أبي خَيثمة في التاريخ الكبير (3/ 193) عن ابن عَبَّاس رضي الله عنهما قال: (إن عُبيد بن عُمَيْر رجلٌ عربي فما له يلحَن؟!).

وروى الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية (ص: 187) عن أحمد بن شعيب النسائي قال: “لا يُعاب اللحن على المحدثين، وقد كان إسماعيل بن أبي خالد يلحَن وسفيان ومالك بن أنس وغيرهم من المحدثين”.

وقال الحميدي في مسنده (878): حدثنا سفيان بن عيينة قال: “كان إسماعيل بن أبي خالد يقول: سمعت المستورد أخي بني فِهر! يلحَن فيه، فقلت أنا: أخا بني فِهر”.

وروى الخطيب في الكفاية (ص: 197) عن هُشَيم قال: “كان إسماعيل بن أبي خالد وقد لقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحش اللحن، كان يقول: حدثني فلان عن أبوه!”.

وروى الخطيب في الكفاية (ص: 198) عن يحيى بن معين قال: “كان إسماعيل بن أبي خالد إذا حدَّث عن قيس بن أبي حازم يقول: حدثني قيس بن أبو حازم!”.

وروى الخطيب في الكفاية (ص: 197) عن علي بن المديني قال: “كان وكيعٌ يلحَن، ولو حدثتُ عنه بألفاظه لكانت عجبًا!”.

وروى الخطيب في الكفاية (ص: 196) عن النضر بن شُمَيل قال: “كان عوف بن أبي جميلة رجلًا لحَّانًا”.

وروى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 353) أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي كان يلحن لحنًا منكرًا، فقال له المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي: “ويحك يا دراوردي! كنت بإقامة لسانك قبل طلب هذا الشأن أحرى”.

وروى أبو نُعَيم في حلية الأولياء (9/ 138) عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: “كان ربيعة يلحَن في كلامه”.

وروى الصُّولي في أدب الكُتَّاب (ص: 133) عن الأصمعي قال: “دخلت على مالك بن أنس بالمدينة، فما هِبتُ عالـمًا قطُّ هيبتي له، فتكلَّم فلحَن فقال: مُطِرنا البارحة مطرًا وأيَّ مطَرًا، فخفَّ في عيني، فقلت له: يا أبا عبد الله قد بلغت من العلم هذا المبلغ، فلو أصلحت من لسانِك! فقال لي: فكيف لو رأيت ربيعة بن عبد الرحمن؟! قلنا له: كيف أصبحت؟ فقال: بخيرًا بخيرًا”.

وروى المعافى بن زكريا في كتابه الجليس الصالح (ص: 154) عن أبي أيوب سليمان بن أبي شيخ قال: “كان ربيعة الرأي لحَّانًا، ومالك بن أنس لحَّانًا”. 

وروى الزَّجَّاجي في مجالس العلماء (ص: 181) عن المازني قال: “سمع أبو عمرو البصري أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحَن، فاستحسن كلامه، واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب! ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى لسانك من جميع الناس”.

وقال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 29): “كان أبو أسامة حماد بن أسامة موصوفًا باللحن، وكذلك أبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي”.

وفي تاريخ الإسلام للذهبي (5/ 1032) عن المزني أن الشافعي قال: “كان أبو ثور الكَلْبي لحَّانًا”.

وقال الجاحظ في البيان والتبيين (2/ 151): “كان هُشيمٌ يقول: حدثنا يَونِس عن الحسن. يقولها بفتح الياء وكسر النون”.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (8/ 242) في ترجمة الحافظ الكبير عبد الله بن عدي صاحب كتاب الكامل في ضعفاء الرجال: “كان لا يعرف العربية، مع عُجْمَةٍ فيه، وأما في العِلَل والرجال فحافظٌ لا يُجَارَى”.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (10/ 781) في ترجمة المحدث المقرئ محمد بن عبيد الله بن كادش البغدادي: “كان يلحَن قليلًا”.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (5/ 542): “قيل: كان بِشر بن الحارث [الزاهد الكبير المعروف ببشر الحافي] يلحَن، ولا يعرف العربية”.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (11/ 95) في ترجمة الحافظ محمد بن طاهر المقدسي: “قال السِّلَفي: كان فاضلًا يعرف، ولكنه كان لُحَنَة، حكى لي المؤتمن قال: كنا بهراة عند عبد الله الأنصاري، وكان ابن طاهر يقرأ ويلحَن، فكان الشيخ يُحرِّك رأسه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله!”.

وقال القاضي عياض في ترتيب المدارك (5/ 274): “محمد بن القاسم بن شعبان، المعروف بابن القرْطي، رأس فقهاء المالكية بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك مع التفنن في سائر العلوم من الخبر والتاريخ والأدب إلى التدوين والورع، وكان يلحَن، ولم يكن له بصرٌ بالعربية مع غزارة علمه، وكان واسع الرواية، كثير الحديث، مليح التأليف، شيخ الفتوى، حافظ البلد، وإليه انتهت رئاسة المالكيين بمصر”.

وقال الإسنوي في طبقات الشافعية (1/ 88): “شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن قيس المعروف بابن الأنصاري، كان إمامًا في الفقه والأصلين، ومات وهو شيخ الشافعية بالديار المصرية، وكان فصيحًا إلا أنه كان لا يعرف النحو، فكان يلحن كثيرًا”.

فهذه بعض أخبار المحدثين والفقهاء والزهاد رحمهم الله ممن كانوا يلحَنون في كلامهم، ولم يمنع ذلك من الاستفادة من علمهم، وأعجب من ذلك أن بعض علماء النحو والعربية والشعراء كانوا يلحنون في كلامهم مع سعة علمهم بالعربية!

قال الجُمحي في طبقات فحول الشعراء (1/ 48): “كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حمَّاد الراوية، سمعت يونس بن حبيب يقول: العجب ممن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحَن!”.

وروى المرزباني في الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء (ص: 330) عن المبرِّد قال: “كان أبو العتاهية مع اقتداره في قول الشعر وسهولته عليه يلحَن في شعره”.

وقال ابن الفَرَضِي في تاريخ علماء الأندلس(2/ 115): “كان محمد بن الحارث الخُشَني شاعرًا بليغًا إلا أنه كان يلحَن، وبلغني أنه صنَّف مائة ديوان”.

وقال بامخرمة في قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر (4/ 319): “عبد الله بن بَرِّي المقدسي ثم المصري النحوي، الإمام العلامة، صاحب التصانيف، انتهى إليه علم العربية في زمانه، وقُصِد من البلاد لتحقيقه وتبحره، وكان يلحن في حديثه، ويتبرم ممن يخاطبه بإعراب”.

وقد ألَّف أبو زيد النحوي عمر بن شَبَّة كتابًا بعنوان: من كان يلحن من النحويين، ذكر ذلك الصفدي في الوافي بالوفيات (22/ 302).

وللحريري صاحب المقامات المشهورة كتابٌ بعنوان: درة الغوَّاص في أوهام الخواص، ذكر فيه كثيرًا مما يلحن فيه الخواص والعامة.

وسيأتي عن ثعلب النحوي المشهور أنه لحن فاعتذر له الحافظ إبراهيم الحربي، وسيأتي عن الفرَّاء إمام أهل الكوفة في النحو أنه لحَن عند هارون الرشيد، واعتذر عن ذلك بعذر استحسنه الخليفة هارون، فبعض العلماء يكون عارفًا بالنحو، ويراعيه حين الكتابة، لكنه يلحن في كلامه.

مَنْ ذا الذي ما ساءَ قط … ومَنْ له الحُسنى فقط

أخبار وطرائف في اللحن والإعراب

روى البلاذري في أنساب الأشراف (7/ 251) عن عبد الملك بن مروان قال: “اللحن من الشريف أقبح من الجُدَري في الوجه الحسن”.

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (63/ 179) عن أبي الزِّناد قال: “كان الوليد بن عبد الملك بن مروان لحَّانًا، كأني أسمعه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا أهلُ المدينة!”.

وقال الصفدي في الوافي بالوفيات (16/ 337): “يقال: إن الحجاج بن يوسف الثقفي سأل الشَّعبي يومًا فقال له: كم عطاءَك في السنة؟! فقال: ألفين، فقال: ويحك! كم عطاؤك؟ فقال: ألفان، فقال: كيف لحنتَ أولًا؟ قال: لحَن الأميرُ فلحنت، فلما أعرب أعربت”.

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 151) عن أبي سفيان الحميري قال: “كان يحيى بن يعْمَر كاتب المهلَّب بخراسان، فجعل الحجَّاج الثقفي يقرأ كتبه يتعجب منها، فقال: مَنْ هذا؟! فأُخبِر، فكتب فيه فقَدِم، فقرأ قراءة فصيحة جدًا، فقال: أخبرني عن عنبسة بن سعيد يلحَن؟! قال: كثيرًا، قال: فأنا ألحن؟! قال: لحنًا خفيفًا، قال: أين؟ قال: تجعل إن أن، وأن إن، ونحو ذلك، قال: لا تساكني ببلد، اخرج!”.

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (34/ 203) عن الأصمعي قال: “الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف لم يلحنوا في جِدٍّ ولا هزلٍ”.

وروى الزَّجَّاجي في مجالس العلماء (ص: 44) عن المازني قال: حدثني الأخفش الكبير سعيد بن مسعدة قال: كان أمير البصرة يقرأ: {إنَّ اللهَ وملائكتُه يصلُّون على النبي} بالرفع، فيلحن، فمضيت إليه ناصحًا له، فتوعّدني، وقال: تُلحِّنون أمراءكم! ثم عُزِل ووُلِّي محمد بن سليمان، فكأنه تلقاها من فم المعزول، فقلت في نفسي: هذا هاشمي، ونصيحته واجبة، فخشيت أن يلقاني بما لقيني به الأول، ثم حملت نفسي على نصيحته، فقال: قد نصحتَ ونبَّهت، فجُزيت خيرًا، فانصرِف مشكورًا، وأمر لي ببغلة وغلام ومال، فانصرفت مغتبطًا بذلك.

وقال محمد بن إبراهيم الوطواط في غرر الخصائص الواضحة (ص: 223): كان الأمير خالد بن عبد الله القَسْري لُحَنة، وفيه يقول يحيى بن نوفل الحميري:

وألحنُ الناس ِكلِّ الناسِ قاطبةً … وكان يُولَع بالتَّشديقِ والخُطَبِ

قال الجاحظ في البيان والتبيين (2/ 151): “كان أيوب السِّخْتِياني يقول: تعلموا النحو، فإنه جمالٌ للوضيع، وتركُه هُجنة للشريف”.

وروى أبو ذر الهروي في فوائده (ص: 117) عن الخليل بن أحمد قال: “سمعت أيوب السِّخْتِياني يلحَن فقال: أستغفر الله”.

وقال ابن فارس في الصاحبي في فقه اللغة العربية (ص: 35): “كان الناس قديما يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب“.

وحكى ابن دُريد في أماليه (ص: 183) وغيره أن معاوية بن بُجَير عامل البصرة كان لا يلحَن، فمات أبوه بُجير بالبصرة، ومعاوية بفارس خليفة أبيه، فقال الذي جاء بنعيه: مات بُجيرا، فقال له: لحَنت ويلك! فقال أخوه عبد الله بن بُجَير:

ألم تر أن خير بني بُجَير … معاوية المحقِّق ما ظننتا

أتاه مخبِرٌ يَنعى بُجَيرا … علانيةً فقال له لحَنتا

وحكى الحموي في معجم الأُدباء (1/ 27) هذه الحكايات الثلاث:

كان سليمان بن عبد الملك بدابِق فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أبينا هلك وترك مال كثير، فوثب أخانا على مال أبانا فأخذه، فقال سليمان: فلا رحِم الله أباك، ولا نيَّح عظام أخيك، ولا بارك الله لك فيما ورثت، أخرجوا هذا اللحَّان عني.

وبعث الحجَّاج الثقفي إلى والي البصرة أن اختر لي عشرة ممن عندك، فاختار رجالًا منهم كثير بن أبي كثير، وكان رجلًا عربيًا، قال كثير: قلت في نفسي: لا أفلت من الحجاج إلا باللحن، فلما دخلنا عليه قال: ما اسمك؟ قلت: كثير بن أبا كثير، فقال: عليك لعنة الله وعلى من بعث بك، فأُخرِجت.

وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه؟ فقال له الحسن: ترك أباه وأخاه، فقال له: فما لأباه وأخاه، فقال له الحسن: إنما هو: فما لأبيه وأخيه، فقال الرجل للحسن: يا أبا سعيد ما أشدَّ خلافك عليَّ! قال: أنت أشدُّ خلافًا عليَّ، أدعوك إلى الصواب، وتدعوني إلى الخطأ!

وقال الجاحظ في البيان والتبيين (2/ 151): “قال رجل للحسن: يا أبي سعيد. فقال: أَكسْبُ الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا أبا سعيد؟!”.

ومن الطرائف ما نقله الجاحظ في البيان والتبيين (2/ 152) عن أحد الرواة أنه كان إذا قرأ اسم هشام بن حسان يقول: حدثنا هشامْ، مجزومة، ثم يقول: ابنْ ويجزمه، ثم يقول: حسانْ ويجزمه، قال الجاحظ: لأنه حين لم يكن نحويًا رأى السلامة في الوقف”.

وقال الجاحظ في البيان والتبيين (1/ 149): “روى أصحابُنا أن رجلًا قال لأعرابي: كيف أهلِك. قالها بكسر اللام. قال الأعرابي: صَلبًا. لأنه أجابه على فهمه، ولم يعلم أنه أراد المسألة عن أهله وعياله!”.

وقال ابن قُتَيبة في عيون الأخبار (2/ 175): “سمع أعرابيٌّ إمامًا يقرأ: {ولا تَنكِحوا المشركين حتى يؤمنوا} بفتح تاء {تنكحوا}، فقال: سبحان الله! هذا قبل الإسلام قبيحٌ فكيف بعده! فقيل له: إنه لَحَنَ، والقراءة: {ولا تُنْكِحوا}، فقال: قبَّحه الله، لا تجعلوه بعدها إمامًا، فإنه يُحِل ما حرَّم الله”.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية (12/ 364): كان عبد العزيز بن مروان يلحن في الحديث وفي كلامه، ثم تعلم العربية فأتقنها وأحسنها، فكان من أفصح الناس، وكان سبب ذلك أنه دخل عليه رجل يشكو خَتَنَهُ – وهو زوج ابنتِه – فقال له عبد العزيز: مَنْ ختَنَك؟ فقال الرجل: ختنني الخاتنُ الذي يختِن الناس. فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك، بماذا أجابني؟! فقال الكاتب: يا أمير، كان ينبغي أن تقول من خَتَنُكَ؟ فآلى على نفسه أن لا يخرج من منزله حتى يتعلم العربية، فمكث جمعة واحدة فتعلمها، فخرج وهو من أفصح الناس، وكان بعد ذلك يُجزل عطاء من يُعْرِب كلامه، ويَنقُص عطاء من يلحن فيه، فتسارع الناس في زمانه إلى تعلم العربية. قال عبد العزيز يومًا لرجل: ممن أنت؟ قال: مِن بنو عبد الدار. فقال: تجدها في جائزتك، فنقصه مائة دينار.

وروى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1075) عن عبيد الله بن معاذ العَنبري قال: “جاء سِيبويه إلى الخليل بن أحمد فشكا إليه حمادَ بن سَلَمة، قال: سألته عن حديثِ هشامِ بن عروة عن أبيه في رجل رعُف فانتهرني، وقال لي: أخطأت، إنما هو رعَف، فقال له الخليل: صدق، أتلقى بهذا الكلام أبا سلمة؟!”.

وذكر الحموي في نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص: 42) أن سيبويه كان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن سِيبويه في حديث، فقال له حماد: لحنت يا سِيبويه، فقال سِيبويه: لا جرم! لأطلبن علمًا لا يُلَحِّنُني معه أحد، فطلب النحو، ولزم الخليل.

وروى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (1076) عن أبي زيد النحوي قال: “كان الذي حداني على طلب الأدب والنحو أني دخلت على جعفر بن سليمان فقال: ادْنُهْ، فقلت: أنا دَنِيٌّ، فقال: لا تقل يا بني: أنا دَني، ولكن قل: أنا دانٍ”.

وفي الكامل في اللغة والأدب للمبرد (2/ 34) أن خالد بن صفوان التميمي المشهور بالبلاغة كان يدخل على قاضي البصرة بلال بن أبي بُردة فيحدثه طويلًا ويلحن في كلامه، فلما كثر ذلك على بلال قال له: يا خالد تحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن السَّقَّاءات! فصار خالد بعد ذلك يأتي المسجد، ويتعلم الإعراب.

وقال الجاحظ في البيان والتبيين (3/ 160) “عن مسلمة قال: كان عند عمر بن عبد العزيز رجلان، فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قُوما فقد أَوذيتما أمير المؤمنين! قال عمر: أنت آذى لي منهما”. والصواب: أن يقول: آذيتما.

وقال الآبي في نثر الدر في المحاضرات (5/ 180): “قال رجل لآخر: تأمر بشيئًا؟ قال: بتقوى الله، وإسقاط الألف”.

وذكر ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين (ص: 130، 131) أن رجلًا قال لصديق له: ما فعل فلانٌ بحمارِه؟ قال: باعِه، قال: قل: باعَه، قال: فلِمَ قلتَ: بحمارِه؟ قال: الباء تجُر، قال: فمن جعل باءك تجُر وبائي لا تجُر! ولقي رجلٌ رجلًا من أهل الأدب، وأراد أن يسأله عن أخيه، وخاف أن يلحَن فقال: أخاك أخوك أخيك ها هنا؟ فقال الأديب: لا، لي، لو، ما هو حضر.

وقال أبو هلال العسكري في ديوان المعاني (1/ 148): أجود ما قيل في إقامة الإعراب وترك التغيير ما أنشدناه أبو أحمد عن الصولي:

ويعجبني زِيُّ الْفَتى وجمالُهُ … ويسقطُ من عَيْنَيَّ ساعةَ يلحَنُ

وروى الخطيب في تاريخ بغداد (6/ 448) في ترجمة إمام الكوفيين في النحو واللغة أحمد بن يحيى الملقب ثعلب عن سليمان بن إسحاق الجلاب قال: قيل لإبراهيم الحربي: إن ثعلبًا يلحن في كلامه! فقال: أيش يكون إذا لحَن في كلامه؟ كان هشام النحوي يلحَن في كلامه.

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (37/ 439) عن أبي سليمان الخطابي قال: قال بعضهم لأصحابه: لا تستعملوا الإعراب في كلامكم إذا خاطبتم، ولا تُخْلوا منه كتبكم إذا كاتبتم.

وقال الصولي في أدب الكتَّاب (ص: 130): “قالوا: اللحن في الكِتاب أقبح منه في الخِطاب. وأكثر العلماء يلحَن في كلامه لئلا يُنسَب إلى الثِّقَل والبُغض، فأما في الكِتاب وإنشاد الشعر فإن ذلك قبيحٌ غير جائز”.

وقال القَلْقَشَنْدِيُّ في صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (1/ 210، 211): “اعلم أن اللحن قد فشا في الناس، والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيبًا، والنطق بالكلام الفصيح عِيًّا. قلت: والذي يقتضيه حال الزمان، والجري على منهاج الناس أن يُحافَظ على الإعراب في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وفي الشعر والكلام المسجوع، وما يُدوَّن من الكلام، ويُكتب من المراسلات ونحوها، ويُغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم مما يتداولونه بينهم، ويتحاورون به في مخاطباتهم؛ وعلى ذلك جرت سُنَّةُ الناس في الكلام مذ فسدتِ الألسِنة، وتغيرتِ اللغة، حتى حُكي أن الفرَّاء – مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو – دخل يومًا على الرشيد فتكلم بكلامٍ لحَن فيه، فقال جعفر بن يحيى: يا أمير المؤمنين إنه قد لحَن! فقال الرشيد للفرّاء: أتلحَن يا يحيى؟! فقال: يا أمير المؤمنين! إن طباع أهل البدو الإعراب، وطباع أهل الحضَر اللحن، فإذا حفظتُ أو كتبتُ لم ألحن، وإذا رجعتُ إلى الطبع لحنتُ. فاستحسن الرشيد كلامه. وقد قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين: ومتى سمعت – حفظك الله – نادرة من كلام الإعراب فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، وإن سمعت نادرةً من نوادر العوام، ومُلحةً من مُلَحهم فإيّاك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظًا حسنًا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها التي وُضِعت لها، ويُذهِب استطابتهم إياها”.

الحث على تعلم النحو بلا احتقار لمن يلحن

روى ابن عبد البر في بيان العلم وفضله (822) عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: “من حفِظ القرآن عظُمت حُرمتُه، ومن طلب الفقه نبُل قدرُه، ومن عرف الحديثَ قويتْ حجتُه، ومن نظر في النحو رقَّ طبعُه، ومن لم يصُن نفسَه لم يصُنه العلم”.

وروى البغدادي في تاريخ بغداد (5/ 20) عن المبرِّد أنه أنشد:

النَّحْو يبسُطُ من لِسَان الألْكَنِ … والمرء تُعْظِمُه إِذا لم يَلحَنِ

فإِذا أردتَّ مـن الْعُـلُوم أجلَّـها … فأجلُّـها منها مُـقيمُ الألسُنِ

فعلم النحو لا يستغني عنه طالب العلم، وهو مفتاح العلوم، نقل ابن العماد في شذرات الذهب (2/ 407) عن الشافعي أنه قال: “من تبحر في النحو اهتدى إلى جميع العلوم”، ونقل الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 28) عن الشعبي أنه قال: “النحو في العلم كالملح في الطعام لا يُستغنى عنه”.

قال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (2/ 24): “ينبغي للمحدِّث أن يتقي اللَّحن في روايته، ولن يقدر على ذلك إلا بعد درسه النحو، ومطالعته علم العربية”.

وقال الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح (ص: 229): “حقٌّ على طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يتخلص به من شَين اللحن والتحريف ومعرَّتهما”.

ولا ينبغي لمن تعلم النحو وأتقنه أن يحتقر غيره ممن يلحن، ولا أن يرغب عن أخذ العلوم الأخرى عن أهلها وإن كان بعضهم يلحن في كلامه وقراءته، فقد تقدم عن بعض العلماء المشهورين في الحديث والفقه والنحو واللغة أنهم كانوا يلحنون في كلامهم، ومن الأمثال الجائرة ما ذكره البُونَسي في كنز الكتَّاب ومنتخب الأدب (1/ 85): فقيهٌ يلحَنُ حمارٌ يَطْحَن!

قال ابن عبد البر في بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 66): “قالوا: العربية تزيد في المروءة. وقالوا: من أحبَّ أن يجد في نفسه الكِبر فليتعلم النحو”.

قال القَلْقَشَنْدِيُّ في صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (1/ 209): صاحب النحو إذا حذقه صار فيه زهو، واستحقر من يلحَن، وهذا مكروه، وهو موجود في غيره من العلوم من الفقه وغيره في بعض الناس، … والنحو هو العلم باللغة التي نزل بها القرآن، وهي لغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى باختصار وتصرف يسير.

وروى أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 383) عن مالك بن دينار قال: “تلقى الرجل وما يلحَن حرفًا، وعملُه كله لحن!”.

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (6/ 313) عن إبراهيم بن أدهم قال: “أعربنا في الكلام، ولحنَّا في الأعمال!”.

وقال محمد بن إبراهيم الوطواط في غرر الخصائص الواضحة (ص: 264): من أظرف ما قيل:

تاه على الناس بإعرابه … أي فاحذروني إنني مُلْسِنٌ

إن كــــان في أقــــوالــــه مُــعــرِبًا … فـــإنــه في فِـعـله يـلـحَـنُ

{{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}} .


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

أنواع منصات التعلم الإلكترونية – أبو الهيثم محمد درويش

منذ حوالي ساعة منصات التعلم الإلكترونية من أدوات التعليم الإلكتروني الحديثة التي أسهمت في تسهيل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *