لا شيء للعائلة مقابل المال

لا شيء للعائلة مقابل المال

شاهدت مقطعًا في أحد البرامج، يتعرض فيه مذيع البرنامج لشأن تربوي على غير العادة يتعلق بضرورة ربط المهام التي يقوم بها الطفل أو المراهق لصالح الأسرة بمقابل مادي، بمعنى أن يتلقى أجرًا مقابل ترتيب غرفته أو إلقاء القمامة أو نشر الغسيل أو ترتيب المنزل وتنظيفه أو شراء احتياجات البيت ومساعدة الجد أو الجدة، وقال: إن هذا شغل ينبغي أن يأخذ مقابله أجراً ليعرف قيمة المال والكسب وأن المال لا يأتي دون عمل.

هل تخضع الأسرة للاعتبارات المادية؟!

مقدم البرنامج يرغب في تعليم الطفل مبادئ الكسب، وأن المال لا يُمنح بلا مقابل، وهذا حق، فلا شيء مجانياً في هذه الحياة، إلا أن ذلك ينبغي أن يكون بعيدًا عن هدم مبدأ اجتماعي وقيمي أهم وهو الانتماء للعائلة والحفاظ على دعائمها صلبة قائمة، وعدم تسليعها ومسخها لصورة من صور البيوع والمعاملات المالية.

 

 إن وضع الأسرة في هذا الموضع التجاري المادي فيه حط كبير من شأنها، وتعريضها لمظانّ الضعف والتهاوي، هذا الطفل الذي يرشوه أبوه اليوم ليؤدي مهمة؛ سيكون رد فعله صادماً في المستقبل!!

الأسرة والعائلة أرقى بكثير من أن توضع بين جدران الاعتبارات المادية. والمسؤولية العائلية لا تخضع بأي حال من الأحوال للثمنية المالية التي تتوقف على مبدأ: ادفع تَنَلْ!!

“لا شيء للعائلة بمقابل مادي”، هذا مبدأ من أهم المبادئ الاجتماعية والتربوية التي ينبغي أن تترسخ لدى الأطفال والمراهقين لتكبر معهم في ظل المادية المقيتة التي تفشت في زماننا هذا. فالمسؤوليات موزعة على جميع أفراد الأسرة بصورة تتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم، فإذا كان الطفل ينتظر من أبويه مقابلاً لتنظيف غرفته أو شرائه لبعض الاحتياجات المنزلية، فمن سيدفع للأم نظير تربيتها لأبنائها؟! ومن يدفع لها نظير إعدادها طعامه وطعام إخوته؟ ومن يدفع للأب نظير عمله وإنفاقه على الأسرة؟ بل ومن يدفع لهما نظير عمرهما الذي انقضى دون مقابل مادي؟

الإجابة ببساطة: لا شيء للعائلة بمقابل مادي!!

هذه الأسرة أو العائلة تواجهها تحديات، وتحيط بها مسؤوليات، ينبغي للجميع أن يتشارك لحملها، كل حسب سنه وقوته، وهذا مما يعزز الانتماء لها، وأن الفرد جزء لا يتجزأ منها، نجاحها من نجاحه، وفشلها من فشله. أما تعليم أسس الكسب والاقتصاد فيمكن تعلمها بعيدا عن العبث بدعائم الأسرة.

كثيرًا ما يلح أبنائي في طلب مقابل مادي نظير التطوع لتقديم خدمة ما فأرفض تمامًا، ولا ينبغي هنا أن يكون الرد سوى: أنت تفعل ذلك لأنك فرد من أفراد هذه الأسرة، وعليك مسؤوليات تجاهها شأن كل فرد منتمٍ إليها.

تخدم أباك لأنه أبوك، وفقط. تساعد جدك وجدتك لأنهما أصلك الذي جئت منه. تنظف غرفتك، لأنها جزء من نظافتك ورقيك. فقط.. تمامًا كما يفعل أبواك معك وهما لا ينتظران منك مالاً.. لا مقابل ماديا لهذه المهام.. وإلا تحول الطفل لكائن مادي براجماتي مقيت لا يراعي إلا مصلحته الشخصية، فيتعاظم لديه الشعور بالاستحقاق غير المبرر، وحينما تحتاجه -وأنت أبوه أو أمه أو أخوه- ولا مال لديك أو منفعة مادية أدار لك ظهره بضمير مستريح ودون أدنى ملامة لنفسه، لانعدام الثمنية في هذه الحالة وعدم وجود ما يعوض تعبه التعويض المالي المناسب!!

هذا فضلاً عن نسف مفهوم البر بالأبوين والامتنان لهما وإنزالهما المنزلة التي تليق بهما، وترسيخ للصراع بين الإخوة على المال والإرث وخلافه دون مراعاة لحقوق الأخوة وروابط الدم، والتي في هذه الحالة ستتلاشى لعدم جدواها المادية.

 

 انهيار الأسرة، وتفكك الروابط الاجتماعية، وانتشار دور العجزة والمسنين في الغرب، وتغول الأبناء على الآباء بحكم القانون… كل هذه عناوين عريضة تستطيع بضغط زر تفجيرها في وجه من يسعى لتسعير العلاقات الاجتماعية ووضعها في سياق ثمني وبراجماتي

إن وضع الأسرة في هذا الموضع التجاري المادي فيه حط كبير من شأنها، وتعريضها لمظانّ الضعف والتهاوي، هذا الطفل الذي يرشوه أبوه اليوم ليؤدي مهمة؛ سيكون رد فعله صادماً في المستقبل!!

استنساخ غربي منزوع من سياقه!!

هذا السلوك المستهجن الغريب هو استنساخ للظرف الحياتي الغربي الذي ترعرع على المادية، والذي يفرض القطيعة بين الأبناء وأصولهم مهما علت، والآباء وفروعهم مهما نزلت! وهذا مما يرسخ للمادية والبراجماتية الدنيئة لدى الطفل، وينسف لديه مبادئ الانتماء للأسرة والولاء لها.

انهيار الأسرة، وتفكك الروابط الاجتماعية، وانتشار دور العجزة والمسنين في الغرب، وتغول الأبناء على الآباء بحكم القانون… كل هذه عناوين عريضة تستطيع بضغط زر تفجيرها في وجه من يسعى لتسعير العلاقات الاجتماعية ووضعها في سياق ثمني وبراجماتي. الشاب يفكر ويقرر ويأخذ خطوة تجاه أبويه وإخوته وأسرته بلسان حال يصرخ: ما الذي سيعود عليّ برعاية والديّ المسنيْن؟ وما وجه الفائدة من أختي لأتكفل بالإنفاق عليها وتعليمها وتزويجها؟! هذه أسئلة لن تجد لها إجابة في ظل مبدأ “ادفع تَنْل” المادي الحداثي، بل الإجابة هنا في بيئتنا التي لا تزال نوعًا ما متمسكة بأصولها وقيمها ومبادئها الإسلامية ونخوتها العربية رغم الحرب المستعرة عليها.

وإن اختلاف الظروف ما بين الوضع الغربي الحالي والوضع العربي والإسلامي يجعل محاولة الاستنساخ تلك منزوعة من سياقها، فربما يكون الوضع في الغرب قد استقر على هذه الطريقة، وبات الجميع متفهما هناك لمثل هذا السلوك الشائن، عدا أننا نلمس معاناة كبيرة في المقتلَعين من مجتمعاتهم العربية، المزروعين في مجتمعات غربية منسلخة من القيم والروابط الاجتماعية مثل هذه، ففي الوقت الذي لايزال الآباء هناك يتمثلون بعض هذه المبادئ ويعيشونها بصورة أو بأخرى بسبب تجذرها في ضمائرهم، إلا أن الأجيال الناشئة التي لديها القابلية للاستهواء والتأثر بدأت تتشرب مثل هذا السلوك، وهو ما لا يتماشى مع كثير مما يعتنقه الآباء، فيحصل الصدام.

إن إنسان الحداثة وما بعد الحداثة لا يستطيع عقله إدراك قيمة الأشياء، ولا يستطيع فهم ما نقوله هنا، لذا تراه يضع لكل شيء منها ثمنا فحسب، فهذا أريح لعقله، وأبسط للفهم على تلافيف مخه، وهذا ما تعززه التربية الوالدية المشوِّهة للقيم بهذه الصورة حتى ولو عن طريق الخطأ، فكثير من التصرفات الخطأ للأبوين تكون بغير تخطيط ولا تعمد، وتكون كذلك متأثرة بما يريانه في الأعمال الدرامية والأفلام الغربية والإعلام الذي يكرس لمثل هذه المفاهيم المادية التي تقوم على مبدأ الثمنية.

لذا قد يبادر الأبوان ابنهما لتحفيزه على أداء مهمة ما، أو تجنب رفضه المستمر للتوجيهات، ووضع قانون مادي بتقديم رشوة مقننة كي يطيعهما: إذا فعلت كذا ستحصل على مبلغ قدره كذا؟ فيرتبط في ضمير الطفل والمراهق ألا يفعل شيئا في المستقبل إلا إذا كان يعود عليه بمنفعة مادية، حتى ولو كان متعلقاً بأهله وعائلته.

______________________________________________________
الكاتب: 
 محمد الغباشي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *