داعية أينما كنت – طريق الإسلام

يوسف عليه السلام ما منعتْهُ أسوار السجن من السير قُدُمًا في طريق الدعوة، وتعليم الناس الدينَ القيم.

يوسف عليه السلام ما منعتْهُ أسوار السجن من السير قُدُمًا في طريق الدعوة، وتعليم الناس الدينَ القيم.

 

ما قيَّده الحبس عن نشر دينه ودين آبائه الكرام.

 

ما منعه الظلم والبلاء الذي تعرَّض له من ترك مهامه الدعوية.

 

فمهما طالت أسوار السجن، فما معه من حقٍّ يستعلي على كل ضيق وكرب.

 

مهما اشتد ظلام السجن، فما معه من نور مبين يضيء له أركان روحه.

 

ومهما قيَّدوا جسده، فروحه طليقة لا يمنعها قيد.

 

ومهما كانت أغلاله وثيقة، فالثقة فيما عند الله أكبر.

 

والمحبوس من حبسه هواه.

 

ها هو سيدنا يوسف بين أسوار السجن ينشر التوحيد بين ساكني السجن، لم ييأس، لم يحزن، لم يشتكِ، لم يترك أيامه وسنينه في السجن تمر سُدًى أمام عينيه، بل فعل ما يمليه عليه واجب الوقت في تلك الظروف التي وضعه الله فيها، وفي ذلك المكان الذي اختاره الله له.

 

هكذا أنت أيها الداعية إلى الله، وحريٌّ بك أن تكون، لا تمنعك البلاءات من الاستمرار في وظيفتك الشريفة؛ وظيفة الأنبياء، لا يقيدك شيء عن استكمال رسالة نبيك للعالمين.

 

ولمَ لا، وأنت حامل لواء الخير، وأنت وريث الأنبياء، وصاحب أعظم وظيفة؟

 

ولمَ لا، وأنت تحمل على عاتقك همَّ هداية الناس، وتعريفهم بربهم، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، والدين القويم؟

 

ولمَ لا، وأنت من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وداخل في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]؟

 

هكذا يجب أن تكون داعية أينما كنت، مباركًا أينما حللت، أينما حللت تُزهر، وأينما وُجِدت تُثمر.

 

في بيتك، في عملك، في شارعك، بين جيرانك وأقاربك، في الطريق، وفي المواصلات العامة، في كل مكان، كن قدوة يقتدي بك الناس بأخلاقك وسَمْتِك، ويذكرون الله إذا رأوك، ابتسامتك تملأ وجهك في كل وقت، تعفو عن المسيء، وترحم الضعيف والمسكين، وتساعد العاجز، وتزور المريض، لا تألو جهدًا في مساعدة الناس بكل سبيل، فلطالما استعبد الإحسان إنسانًا.

 

كن داعية بأخلاقك، وإحسانك للناس، وإحسانك في عبادتك لله؛ ألم تلاحظ أن الفتيان قالوا ليوسف عندما أرادا أن يفسر لهما الرؤيا: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]، ما دفعهما لسؤاله ما رأوا من إحسانه وصلاحه.

 

قال ابن كثير: “قال السدي: وكان سبب حبس الملك إياهما أنه توهَّم أنهما تمالأا على سَمِّه في طعامه وشرابه، وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة، وصدق الحديث، وحسن السمت وكثرة العبادة، صلوات الله عليه وسلامه، ومعرفة التعبير، والإحسان إلى أهل السجن، وعيادة مرضاهم، والقيام بحقوقهم، ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن، تآلفا به وأحباه حبًّا شديدًا، وقالا له: والله لقد أحببناك حبًّا زائدًا”.

 

تعلَّمْ من سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام كيف استغلَّ موقف سؤال الفتيان لهما، ودعاهما إلى الله، وبيَّن لهما خطأ عقيدتهما.

 

فلا حرج عليك إذا كنت ذا خبرة في أمرٍ ما، وجاءك أحد يسألك عن شيء في تخصصك هذا، فلا حرج عليك أن تدعوه إلى الله ببعض الكلمات الطيبة، والابتسامة الصادقة، أو إهداء بعض الكتيبات له، فكم سمعنا عن إسلام الكثيرين من غير المسلمين بسبب مثل هذه الوسائل الدعوية! فلا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا.

 

فإذا كنت موظفًا – مثلًا – في إحدى الجمعيات الخيرية، وجاءك أحد الفقراء ليأخذ نصيبه من الصدقات، فلا بأس أن تذكِّره بأن هذه الصدقة رزق من الله له، وما أنت إلا سبب في هذا الرزق، فإنك بذلك قد أعطيته درسًا سريعًا في التوكل، وعرَّفته بربه الرزاق.

 

وبالتأكيد سمعت عن الجمعيات الدعوية التي تعمل في مجال دعوة غير المسلمين في القرى الفقيرة في إفريقيا، فإنهم يقومون بإهدائهم ذبيحة من البقر أو الغنم، ويعدونها لهم، ثم يستأذنونهم في إلقاء كلمة تعرِّفهم بالله والإسلام، وبفضل الله يدخل الكثيرون منهم في الإسلام، فلا حرج عليك في استغلال حاجة الناس ودعوتهم إلى الدين.

 

ولعلك سمعت عن أن أحد مصارف الزكاة هي للمؤلفة قلوبهم للدخول في الإسلام، وهم الذين نظن أنهم سيدخلون الإسلام إذا أحسنَّا إليهم.

 

ثم تعلَّم من لطفه وتودده في النداء لهما بقوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39]؛ ليبين قربه منهما، واشتراكه معهما في الشعور بالحزن والألم والضيق.

 

وهكذا احرص أن تستخدم ألطف الكلمات في نداء من تدعوهم، فإن ذلك أدعى لفتح قلوبهم لدعوتك، واحرص أيضًا أن تبين لمن تدعوهم أنك مثلهم، وتعلم بأحوالهم وضعفهم وشهواتهم، فلا تتحدث من برج عالٍ، ولا تكن مثاليًّا، فينفِروا من دعوتك.

 

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]، أرأيتَ كيف قدَّم لهما بعضًا من مهاراته وقدراته في التأويل، ونسب الفضل في ذلك لله؟

 

فلا حرج عليك أن تقدِّم لمن تدعوهم طرفًا من شهاداتك ومؤهلاتك، بغير تكبُّرٍ ولا فخر، ولا نسبة الفضل لنفسك، بل بنسبة الفضل لله، فإن ذلك أدعى أن يثقوا فيك، وفي علمك، ويحرصوا على أخذ العلم منك، والاستماع لقولك، والاستجابة لدعوتك.

 

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 37، 38].

 

ثم بدأ في أول خطاب دعوي لهما بشكل مبطن وغير مباشر، وبالتدريج، بأن ذَكَرَ أنَّ سبب ما هو فيه من علم التأويل أنه ترك ملة قوم كافرين، ولم يسمِّ هؤلاء القوم، وإن كان يقصد قومهم؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» ؟، وهذا تلطُّف منه عليه الصلاة والسلام، فلم يواجههما بفساد عقيدتهم في البداية، حتى يتألَّف قلوبهما أولًا، فلا ينفرا منه ومن دينه.

 

فلم يقل لهما مباشرة: أنتم على باطل، أو أنتم كفار، ستدخلون جهنم، ولكن أعلمهما أن هناك قومًا لا يؤمنون بالله، وهو ليس من هؤلاء القوم، فضرب لهم المثل على نفسه ليقتدوا به، ثم بيَّن لهم الملة الصحيحة التي يتبعها، وهي ملة آبائه من الأنبياء.

 

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].

 

وبعد التلميح استخدم أسلوبًا جديدًا للإقناع؛ وهو السؤال، والحُجَج العقلية، وفتح عقولهم للبحث والتقرير بأنفسهم، هل عبادة أربابٍ كُثُر خير أم عبادة رب واحد؟ فعبادة الكثير من الأرباب تعني أن كل ربٍّ له أوامر ونواهٍ، قد تتعارض مع رب آخر فيصبح العبدُ مشتَّتَ الإرادة بين جميع هذه الآلهة والأرباب، لا يعلم أيهما يطيع، وأيهما يعصي؛ لأن إرادتهم متعارضة، أما عبادة رب واحد، فهي أهدأ وأفضل وأكثر راحة وطمأنينة لقلب العبد؛ لأن كلامه واحد لا يتغير.

 

كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

 

ثم انتقل إلى التصريح والتوضيح بعد هذه التمهيدات: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].

 

بيَّن لهم فساد عقيدتهم، وبيَّن لهم الدين الحق القيم؛ وهو عبادة الله وحده، ونبذ ما دون ذلك من عبادة الآلهة الباطلة.

 

فانظر إلى حكمته، كيف اختار أهم شيء؛ وهو التوحيد، وركَّز عليه في دعوتهم، وكيف تدرج لهم في البيان والإرشاد، واستخدم الحجج العقلية.

 

فما أجمله من أسلوب دعوي يفتح القلوب قبل الآذان!

 

وما أشملها من آيات تبين طرقَ دعوة الأنبياء ووسائلها، لمن يحب أن يقتفِيَ آثارهم، ويستنَّ بسُنَّتهم!

 

وما أنفعك وأثمرك – أيها الداعية – إذا اسْتَنَنْتَ بهذا المنهج القويم في دعوتك إلى الله!

______________________________________________________
الكاتب/ سمر سمير


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *