من هنا بدأت مساعي العديد من الدول، لاعتبارات اقتصادية، التقليل من مخاطر الاعتماد على الدولار في المعاملات المالية والتجارية، بل تمت الدعوة إلى البحث عن عملة جديدة للتسويات المالية والتجارية، تكون بديلة للدولار.
حالة الاضطراب في أداء الاقتصاد العالمي، تفرض تحدياتها على كافة اقتصاديات العالم، ومنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والعالم ينتقل من أزمة إلى أزمة على الصعيد الاقتصادي، إلا أن الملمح الرئيس الذي خلصت إليها العديد من التجارب العالمية، أن النظام الاقتصادي أحادي القطبية بقيادة أميركا، لم يعد يناسب الواقع الجديد، لما نتج عنه من مشكلات مالية واقتصادية كبيرة.
وبخاصة أن منشأ الأزمات المالية والاقتصادية الكبرى، يأتي من أميركا، لاختلال نُظمها المصرفية، وكذلك تقلبات سياساتها النقدية والمالية، فكلما ارتفع أو انخفض سعر الفائدة في أميركا، ارتبكت السياسات المالية والنقدية في دول العالم.
أما السياسة النقدية الأميركية، المتعلقة بقيمة الدولار، فهي تراعي المصالح الأميركية فقط، في حين أن ذلك يحدث ارتباكات كبيرة في أسعار صرف عملات بقية العالم، وينعكس عدم استقرار أسعار الصرف على العديد من المؤشرات الاقتصادية الكلية للدول، وبخاصة ما يتعلق بقرارات الاستثمار، وممارسات المضاربات على أسعار الصرف، وفي ذلك أضرار كبيرة، تعوق تقدم الإنتاج الحقيقي.
ومن هنا بدأت مساعي العديد من الدول، لاعتبارات اقتصادية، التقليل من مخاطر الاعتماد على الدولار في المعاملات المالية والتجارية، بل تمت الدعوة إلى البحث عن عملة جديدة للتسويات المالية والتجارية، تكون بديلة للدولار.
تحرص أميركا أن تظل على موقعها الريادي في النظام العالمي، بمكونيه البارزين، السياسي والاقتصادي، وعلى الصعيد الاقتصادي، مني الاقتصاد الأميركي بعدة أزمة كبيرة، في الوقت الذي تتقدم فيه اقتصاديات الدول الصاعدة، وبخاصة الصين.
وقد بدأت هذه الدعوة أثناء أول اجتماع لمجموعة العشرين بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وإن كانت أميركا اعترضت بشدة على هذه الدعوة، لما فيها من تعارض كبير لمصالحها.
ولكن الدول الصاعدة على وجه الخصوص، اتجهت إلى خطوة مبدأية، يمكن من خلالها على المديين المتوسط والطويل، أن تحدث تغيرًا كبيرًا بشأن استبدال الدولار في التسويات المالية والتجارية، فتم بالفعل توقيع اتفاقيات لتسوية المعاملات التجارية بالعملات المحلية، ودخلت تلك الاتفاقيات حيز التنفيذ.
فتم ذلك من قبل الصين مع العديد من دول جوارها، وبرز ذلك بقوة في العلاقات الصينية الروسية، بعد أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا، بل ثمة خطوة أكبر، تمت بعد أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا، وهي اعتماد العملة الصينية في العديد من المعاملات الروسية مع العالم الخارجية، ومؤخرًا سددت دولة الارجنتين دفعة من ديونها لصندوق النقد الدولي، باليوان الصيني.
– حجم التجارة السلعية العالمية:
تفيد أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، أن التجارة السلعية على مستوى العالم، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت في عام 2022 إلى 50.1%، بعد أن كانت 41.9% في عام 2020. وبلا شك أن أداء التجارة السلعية في عامي 2020 و2021 تأثر بأزمة جائحة كورونا، وكذلك التداعيات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا.
وفي ضوء هذه النسب، يتبين لنا أن قيمة التجارة السلعية، على مستوى العالم في عام 2022، كان أعلى من 50 تريليون دولار (قدر الناتج المحلي العالمي بـ 101 تريليون دولار في عام 2022)، وإذا نظرنا إلى الصين كأكبر مصدر للسلع على مستوى العالم، نجد أن نسبة تجارتها السلعية بلغت 35% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2022، أي ما قيمته 6.2 تريليون دولار.
ومع هذه الأرقام الكبيرة، الخاصة بجوانب التجارة السلعية، فإن التسويات المالية الخاصة بها، تتم بنسبة تزيد عن 50% من خلال العملة الأميركية، وبالتالي فلايزال الدولار هو المهيمن على حركة التجارة العالمية، وإن كان اليورو يأتي في المرتبة الثانية لتسويات المعاملات المالية بنسبة تقترب من 30%، بينما باقي العملات الرئيسة الأخرى ( اليوان، والين، والجنيه الاسترليني، والدولار الاسترالي، والفرنك السويسري) تشغل النسبة الباقية.
– أسباب البحث عن بديل للدولار:
تحرص أميركا أن تظل على موقعها الريادي في النظام العالمي، بمكونيه البارزين، السياسي والاقتصادي، وعلى الصعيد الاقتصادي، مر الاقتصاد الأميركي بعدة أزمة كبيرة، في الوقت الذي تتقدم فيه اقتصاديات الدول الصاعدة، وبخاصة الصين.
فالفرق بين الناتج المحلي الإجمالي لكل من أميركا والصين يتقلص على مدار العقدين الماضيين، فحسب بيانات عام 2022 بلغ الناتج المحلي الإجمالي في أميركا 25.4 تريليون دولار، وفي الصين 17.9 تريليون دولار.
كما أن أميركا صدرت لاقتصاديات العالم عدة أزمات منذ مطلع الألفية الثالثة، ولازالت أميركا وأوروبا يسيطران على مقدرات المؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليان)، وعدم السماح بإعطاء مساحة للدول الصاعدة داخل المجالس التنفيذية لتلك المؤسسات، وهو ما دعا الصين ودول البريكس لتأسيس بنك البنية الأساسية، كبديل عن البنك الدولي، كما تقوم الصين منذ سنوات بنشاط إقراض العديد من الدول النامية والأقل نموًا، بعيدًا عن تدخلات صندوق النقد الدولي.
كما وجدت الدول النامية والصاعدة، أنها رهن السياستين المالية والنقدية في أميركا، وهو ما يعرض مصالح الدول النامية والصاعدة للعديد من المخاطر، أبرزها إهدار الثروات، فمثلًا، حينما تنخفض قيمة الدولار، فإن معنى ذلك أن قيمة الاحتياطيات الدولية بالدولار، تتعرض للانخفاض، كما أن خفض قيمة الدولار يرفع من قيمة عملات الدول النامية والصاعدة، ويربك حركة التجارة الدولية لها.
وفي حالة تسليم الدول النامية والصاعدة بهيمنة سعر الفائدة في أميركا على مقدرات الاسواق المالية، وسياسات البنوك المركزية، يفضي ذلك إلى اضطراب القرار الاقتصادي فيما يتعلق بالاستثمار.
لا يخفى على أحد أن الصين مشروع ينتهج نفس النهج الأميركي، من السعي للسيطرة وفرض القوة، وإدارة المنظومة العالمية في إطار مصالحها، أما منظومة الاقتصاد العادل، والمصالح المتبادلة، أو نقل التكنولوجيا، فلم تظهر في السياسات الممارسة على الأرض من قبل الصين
وثمة مخاطر أكبر لدى الدول النامية والصاعدة، فيما يتعلق بإدارة اقتصادياتها، أنها تشعر بغياب الذاتية في إدارة مقدراتها الاقتصادية، وأنها أصبحت تابعًا في إدارة برامجها التنموية.
وفضلًا عن هذا فإن أميركا وإدارتها السياسية والاقتصادية، ناصبت الجميع العداء خلال السنوات الماضية، وبخاصة مع مجيئ الرئيس السابق ترامب، الذي أجج الحرب التجارية بين أميركا والعديد من دول العالم، وانتقلت العدوى إلى باقي الدول لتبني سياسات حمائية فيما يتعلق بالتجارة الدولية.
ولم يقتصر الأمر على التجارة السلعية، ولكن وجدنا ممارسات تتعلق بحجب التكنولوجيا عن الصين وبعض الدول الأخرى، لكي تتم السيطرة على حصة كبيرة من أرباح الشركات والصناعات، وتظل عملية الاحتكار للتكنولوجيا في يد أميركا.
– أداء تجربة توسيط العملات المحلية:
يمكن اعتبار ما بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2088، بداية اتجاه بعض الدول للتخلص من هيمنة الدولار، وتوسيط العملات المحلية في أعمال التجارة البينية، وهي ألية تم العمل بها في العديد من الدول، وبخاصة مع الصين، سواء مع جيرانها، أو مع مصر، أو مع روسيا، وكذلك فعلت تركيا مع دول الاتحاد التركي ودول أخرى.
ولكن لازالت التجربة غير مؤثرة في محيط التجارة الدولية، وكذلك تأثيرها ضعيف في محيط التسويات المالية بالدولار، فلايزال الدولار مهيمنًا على التسويات المالية الدولية.
ومما يعوق آلية توسيط العملات المحلية في التجارة الدولية، أنها تكون عادة لفترة محددة ولتكن 5 سنوات، وفي نهايتها تتم التسوية، ويدفع العجز بالدولار. إذًا هي آلية وقتية.
ولكن الأنجع منها، أن تتم عمليات تسوية التجارة البينية بأحد العملات الرئيسة الأخرى، بخلاف الدولار أو العملات التي تدور دولها في الفلك الأميركي، فمثلًا إذا تمت التسوية باليوان سيكون الأثر أكبر تأثيرًا على هيمنة الدولار.
– المعوقات:
يعتمد الكثيرون على ريادة الصين في إنجاح تجربة توسيط العملات المحلية في التجارة، أو إسقاط الدولار من الهيمنة على المعاملات المالية الدولية، ولكن هذا الحلم يصطدم بأمرين مهمين، وهما أن الصين ترتبط بشكل كبير مع الولايات المتحدة الأميركية، بحجم تبادل تجاري تبلغ قيمته قرابة 600 مليار دولار أو يزيد بقليل، وهذه التجارة يتم تسويتها بالدولار، وكذلك الاتحاد الأوروبي تربط الصين معه بحجم تجاره سلعية قيمتها 912 مليار دولار، وهو ما يعني أن أميركا والاتحاد الأوروبي يشكل قرابة 30% من التجارة السلعية للصين، وهي مساحة يستبعد أن يتم توسيط اليوان فيها، أو يزاح الدولار من تسوياتها المالية.
وإذا انتقلنا إلى قيمة التبادل التجاري بين الصين وروسيا، فنجد الأرقام هزيلة عند مقارنتها بقيمة التبادل التجاري للصين مع أميركا وروسيا، فالأرقام توضح أن حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا في عام 2022 كان بحدود 190 مليار دولار فقط لا غير.
والأمر الأهم، هم أن الصين لا تمارس سياساتها باسم الدول النامية أو الصاعدة، ولكنها تمارس سياساتها كدولة، بعيدة عن المكونات الأيدلوجية، أو التصنيف التنموية، ولا يخفى على أحد أن الصين مشروع ينتهج نفس النهج الأميركي، من السعي للسيطرة وفرض القوة، وإدارة المنظومة العالمية في إطار مصالحها، أما منظومة الاقتصاد العادل، والمصالح المتبادلة، أو نقل التكنولوجيا، فلم تظهر في السياسات الممارسة على الأرض من قبل الصين تجاه الدول النامية أو الصاعدة.
ومؤخرًا لوحظ أن أميركا والغرب يسعيان لتنفيذ سياسة مزدوجة، وهي تحجيم طموح الصين كقوة اقتصادية، وفي نفس الوقت السعي لاستيعابها، وإصلاح ما تم إفساده من علاقات على الصعيد الاقتصادي خلال الفترة الماضية، وبخاصة على مدار السنوات العشر الماضية.
فثمة حركة دبلوماسية وسياسية من قبل أميركا وأوروبا، تجاه الصين، لتسوية المشكلات العالقة، ولكن من الصعب الوصول لصفر مشاكل في ضوء الصراع الذي بدأ، ولن ينتهي بهذه البساطة.
ختامًا: خطوة استبدال الدولار في تسوية المعاملات التجارية والمالية انطلقت، ولكن إلى أي محطة من محطات النجاح ستصل؟ ستوقف هذا على أداء جماعي وليس فردي من قبل الصين أو روسيا، وكذلك سيتوقف على إدارة أميركا لهذه الأزمة، والأوراق التي تمتلكها في تحجيم الصين أو استيعابها.
___________________________________________________
الكاتب: عبدالحافظ الصاوي
Source link