الشرع يحتاط غاية الاحتياط في الأعراض، ويبالغ غاية المبالغة في نفي التهمة عن الشهود، تأمل لم اشترط الشرع لإثبات الفاحشة على أحد من الناس أن يشهد أربعة شهداء؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}!
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ﴾ [النساء: 15].
تأمل لم اشترط الشرع لإثبات الفاحشة على أحد من الناس أن يشهد أربعة شهداء؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}!
لتعلم أن الشرع يحتاط غاية الاحتياط في الأعراض، ويبالغ غاية المبالغة في نفي التهمة عن الشهود، فلو كان واحدًا أو اثنين ربما تطرقت إليهم التهمة، وأنهما دبرا مكيدة لمن قاموا بالشهادة عليه، فإذا كانوا ثلاثة كانت التهمة عنهم أبعد، وكانوا من سوء الظن أسلم، فإذا كانوا أربعة كانت التهمة عنهم أشدَّ بعدًا، وكانوا من سوء الظن أسلم وأسلم.
وتأمل لم قال تعالى بعدها: ﴿ {فَإِنْ شَهِدُوا}!
لتنتفي كل شبهة إكراه لهم على الشهادة، فلو رأى إنسانٌ مَنْ يمارس الفاحشة وأبى أن يشهد فلا يحل لأحد أن يكرهه على الشهادة.
ويظهر هذا التضييق في إقامة الحدود جليًّا في نصوص الشرع التي تأمر بالستر والعفاف، وتنهى عن كشف العورات، وهتك الأستار؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»[1].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ»[2].
ومن تضييق الشرع في الأعراض إيجاب الحد في قذف المحصنات؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»[3].
ومن تضييق الشرع في إقامة الحدود من ثبت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ»[4].
فإلى أولئك الذين يشنعون على الشرع، ويرمونه بالشدة، ويصفونه بالقسوة، نقول: هذه احتياطات الشرع لحفظ النفوس وصيانة المجتمعات.
وأين هم من عفة المسلمين؟
وهل للأمان في مجتمعاتهم مكان؟
تجيب على ذلك كاميرات المراقبة عندهم التي تصور القتل والسلب والنهب، إذا غفل الرقيب البشري، وتعطلت تلك الكاميرات.
[1] رواه أحمد- حديث رقم: 16959، وابن ماجه- كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابُ السِّتْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَدَفْعِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ، حديث رقم: 2544.
[2] رواه أحمد- حديث رقم: 19776، وأبو داود- كِتَاب الْأَدَبِ، بَابٌ فِي الْغِيبَةِ، حديث رقم: 4880، بسند صحيح.
[3] رواه البخاري– كِتَابُ الْوَصَايَا، بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، حديث رقم: 2766، ومسلم- كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَأَكْبَرِهَا، حديث رقم: 89.
[4] رواه أبو داود، كِتَاب الْحُدُودِ، بَابُ الْعَفْوِ عَنِ الحُدُودِ مَا لَمْ تَبْلُغِ السُّلْطَانَ، حديث رقم: 4376، والنسائي- كِتَابُ قَطْعِ السَّارِقِ، مَا يَكُونُ حِرْزًا وَمَا لَا يَكُونُ، حديث رقم: 4885، والطبراني في الأوسط- حديث رقم: 6212، والحاكم- كِتَابُ الْحُدُودِ، حديث رقم: 8156، بسند صحيح.
________________________________________________
الكاتب: سعيد مصطفى دياب
Source link