منذ حوالي ساعة
الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، سواء في أمور الدين أو الدنيا، وعند تعارض المصالح والمفاسد يجب ترجيح خير الخيرين، وفعل أهون الشرين سواء في الأمور الدينية أو الدنيوية.
الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، سواء في أمور الدين أو الدنيا، وعند تعارض المصالح والمفاسد يجب ترجيح خير الخيرين، وفعل أهون الشرين سواء في الأمور الدينية أو الدنيوية.
وتعارض المصالح والمفاسد يكثر فيه الاشتباه والخطأ، فلا بد من سؤال الله التوفيق، والتأني وإكثار التأمل في النظر فيها من جميع الجهات، والتشاور بين العلماء وأهل الاختصاص لتقديم أرجحها عند التعارض، حين لا يمكن الجمع بين تحصيل المصلحة ودفع المفسدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى الكبرى (4/ 287): “جاءت الشريعة عند تعارض المصالح والمفاسد بتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وباحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما”.
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 98): “إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى: { {فاتقوا الله ما استطعتم}} [التغابن: 16]، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما، وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد”.
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (28/ 129): “إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها. فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام” انتهى مختصرا.
مثال تقديم أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما: تقديم مصلحة تأليف القلوب واجتماع الكلمة على مصلحة العمل ببعض السنة التي ينكرها بعض الناس جهلا أو تقليدا لعالمٍ فاته العلم بها.
قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (22/ 268، 407): “لو كان الإمام يرى استحباب شيء، والمأمومون لا يستحبونه، فتَرَكه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن. مثال ذلك الوتر، فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة كالمغرب، كقول من قاله من أهل العراق. والثاني: أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها، كقول من قال ذلك من أهل الحجاز. والثالث: أن الأمرين جائزان، كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو الصحيح، وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله، فلو كان الإمام يرى الفصل، فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب، فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن، وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس، ووافقهم كان قد أحسن … ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما، وقال: الخلاف شر”.
وما أحسن نصيحة ابن تيمية للعلماء وطلاب العلم كما في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 127): “تفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر أو جنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرا، فأما مراتب المعروف والمنكر، ومراتب الدليل، بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين، وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين؛ فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين”.
ومثال ارتكاب أخف الضررين: دراسة بعض النساء للطب مع حصول الخروج منهن من بيوتهن للدراسة ثم للعمل في المستشفيات والعيادات، وحصول بعض الاختلاط مع الرجال للضرورة أو الحاجة، لكن هذا الضرر أخف من ضرر تطبيب الرجال للنساء إذا لم توجد طبيبات يعالجن النساء؛ فلو منعنا النساء من دراسة الطب وممارسته، فلن تجد النساء حينئذ طبيبات لعلاجهن وإجراء العمليات الجراحية لهن، وسيتولى ذلك الأطباء، وفي هذا مفسدة عظيمة.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة – 1 (24/ 422) برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (يجوز للمرأة أن تعمل في مجال الطب للنساء عموما، ولادة وغير ولادة، ولها أن تناقش الأطباء فيما تحتاجه مما هو من المصلحة للمرضى في علاجهم، دون خضوع في القول وتكسر في الحديث، ودون خلوة بالطبيب ولا تبرج وكشف شيء من العورة).
وجاء فيها أيضا – 1 (12/ 177) برئاسة ابن باز: ( يجب على المرأة عينا أن تتعلم ما لا بد منه لإصلاح شؤون دينها، وأداء حق ربها وأسرتها، من عقيدة وصلاة وصيام وزكاة وحج وأخلاق، وأن تتعلم ما لا بد منه لها ولأسرتها من شؤون الدنيا، كطهي وطعام وخبز وخياطة، وهذا مما يتفاوت فيه الناس، فقد تكون معرفة ذلك ضرورية لبعض النساء دون بعض، فإن تيسر لها ذلك دون خروج إلا لمسجد ونحوه فالحمد لله، وإلا فلها الخروج إلى معهد أو مدرسة لتعلم ما وجب عليها، لتوقف صحة دينها وصلاح دنياها عليه. أما تعلم الطب ونحوه من الأمور العامة التي تحتاج إليها الأمة فهو فرض كفاية على الرجال والنساء، في حدود ما تحتاج إليه الأمة؛ لقيام الرجال بالكشف عن أمراض الرجال وعلاجهم، وإجراء عمليات جراحية ونحوها لهم، وقيام النساء بمثل ذلك للنساء؛ وبذلك تُسد حاجة الأمة ذكورها وإناثها في النواحي الصحية).
وهذا كلام نفيس جدا في مسألة تعارض المصالح والمفاسد لابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (20/ 57 – 60): “إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقُدِّم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم. وباب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب، وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات، فيرجحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء، فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء؛ لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم، فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم عند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها. يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}} [الإسراء: 15]، والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، … ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم؛ فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع” انتهى مختصرا.
وفي الختام نؤكد على أهمية الالتجاء إلى الله في المقارنة بين المصالح والمفاسد عند التعارض، فالإنسان في أمور دينه ودنياه قد يقارن بين المصالح والمفاسد عند التعارض لأجل الترجيح لكن لا يوفق للعمل بالأرجح، فلا هادي إلا الله، ولا يمل المسلم من دعاء الله أن يهديه الصراط المستقيم علما وعملا في جميع أموره الدينية والدنيوية، {{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}} [آل عمران: 101].
إذا لم يكن عون من الله للفتى … فأول ما يجني عليه اجتهاده
Source link