من درر العلامة ابن القيم عن العين والحسد – فهد بن عبد العزيز الشويرخ

فالعين والحسد من المواضيع التي بحثها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله  الكريم أن ينفع بها الجميع.

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد: فالعين والحسد من المواضيع التي بحثها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله  الكريم أن ينفع بها الجميع.                    

                      [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى]

  • الحسد من أسباب عدم قبول الحق:

الأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدًّا….ومن أعظم هذه الأسباب الحسد فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسدُ المحسودَ قد فُضل عليه وأُوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسدُ أن ينقاد له ويكون من أتباعه

                                 [التبيان في أيمان القرآن]

  • صرف قوة الحسد:

ما ابتلي بصفة من الصفات إلا وجعل له مصرفًا ومحلًّا ينفذها فيه…فجعل لقوة الحسد: فيه مصرف المنافسة في فعل الخير، والغبطة عليه، والمسابقة إليه.

                                    [الفوائد]

للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا, ومتى قصرت عنه كان نقصاً ومهانةً. …فللحسد حد, وهو المنافسة في طلب الكمال والأنفةُ أن يتقدم عليه نظيره, فمتى تعدى ذلك صار بغياً وظلماً يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه, ومتى نقص عن ذلك كان دناءةً وضعفَ همةٍ وصغرَ نفس.

                                [زاد المعاد إلى هدي خير العباد]

  • الإصابة بالعين:

روح الحاسد مؤذية للمحسود أذى بيناً, ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يستعيذ به من شره, وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية, وهو أصل الإصابة بالعين.

ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية, بل قد يكون أعمى, فيُوصف له الشيء, فتؤثر نفسه فيه, وإن لم يره, وكثير من العائنين يُؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية, وقد قال تعالى لنبيه: {﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ﴾}  [القلم:51] وقال {﴿: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾}  فكل عائن حاسد, وليس كُلُّ حاسد عائن, فلما كان الحاسد أعمَّ من العائن, كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن, وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تُصيبه تارة وتخطئة تارة, فإن صادفته مكشوفاً ولا وقاية عليه أثرت فيه, ولا بُد, وإن صادفته حذراً شاكي السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه, وربما رُدَّت السهام على صاحبها.

وقد يعين الرجل نفسه, وقد يعين بغير إرادته, بل بطبعه, وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني.

وإذا كان العائن يخشى ضرراً عينه وإصابتها للمعين, فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه ” كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل ابن حنيف: (( ألا بركت)) أي قلت: اللهم بارك عليه.

ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

                                     [الروح]

  • الفرق بين المنافسة والحسد:

الفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرةُ إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه, فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر, قال تعالى {﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ﴾} [المطففين:26] وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلباً ورغبةً فتنافس فيه كل من النفسين الأخرى, وربما فرحت إذا شاركتها فيه, كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير ويفرحُ بعضهم ببعض باشتراكهم فيه بل يحضُّ بعضهم بعضاً عليه مع تنافسهم فيه وهي نوع من المسابقة وقد قال  تعالى {﴿فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِ﴾}  [البقرة:148]

الحسدُ خلُقُ نفس ذميمةٍ وضيعةٍ ساقطةٍ ليس فيها حرص على الخير, فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها, وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم كما قال تعالى {﴿وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ ﴾ } [النساء:89] وقال تعالى: {﴿وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ﴾ }  [البقرة:109] فالحسود عدو النعمة متمن زوالها عن المحسود,كما زالت عنه هو والمنافسُ سابقُ النعمة متمنِّ تمامها عليه وعلى من ينافسه.وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمود, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «(( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن, فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار, ورجل آتاه الله مالاً, فسلطه على هلكته في الحق )) » فهذا حسد منافسه وغبطة يدل على علو همة صاحبه وكبر نفسه وطلبها للتشبه بأهل الفضل.

                              [بدائع الفوائد]

أصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها, فالحاسد عدوُّ النعم, وهذا الشرُّ هو من نفس الحاسد وطبعها, ليس هو شيئاً اكتسبه من غيرها, بل هو من خُبثها وشرها, بخلاف السحر, فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى, واستعانة بالأرواح الشيطانية, فلهذا – والله أعلم – قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر, لأن الاستعاذة من شرِّ هذين تعمُّ كل شرٍّ يأتي من شياطين الإنس والجن, فالحسد من شياطين الإنس والجن, والسحرُ من النوعين…..فهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكُّل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة, فهو مستعيذ بولي النعم وموليها من شر لصِّها وعدوها.

  • الفرق بين الحاسد والعائن:

العائن والحاسد يشتركان في شيء, ويفترقان في شيء, فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه, فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته, والحاسد يحصلُ له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضاً.

ويفترقان في أن العائن قد يُصيبُ من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال, وإن كان لا يكادُ ينفكُ من حسد صاحبه. وربما أصابت عينه نفسه, فإن رؤيته للشيء رؤية تعجُّب وتحديق, مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.

  • لا يخلو أحد من حسد لكن المؤمن يخفيه ولا يؤذي غيره:

تأمل تقيده سبحانه شر الحاسد بقوله: {﴿ إِذَا حَسَدَ ﴾}  لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه ولا يترتب عليه أذى بوجهٍ ما, لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده, بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك, ولا يعامل أخاه إلا بما يُحبُّ الله, فهذا لا يكاد يخلو منه أحد, إلا من عصمه الله.وهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ويُلزمها بالدعاء للمحسود

  • المعوذتين لهما تأثر خاص في دفع العين:

المعوذتين…لا يستغني عنهما أحد قط,..ولهما تأثير خاص في دفع….العين وسائر الشرور, وحاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس.

  • أسباب يندفعُ بها شر الحاسد عن المحسود:

أحدها: التعوذ بالله تعالى من شره, والتحصن به, واللجأ إليه.

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه, فمن اتقى الله تولى الله حفظه.

السبب الثالث: الصبر على عدوه, وأن لا يقابله ولا يشكوه, ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً, فما نُصِرَ على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.

السبب الرابع: التوكل على الله, فـ {﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ  ﴾ }   والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفعُ بها العبد ما لا يُطيقُ من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم…فإن الله…كافيه, ومن كان الله كافيه وواقيه, فلا مطمع فيه لعدو.

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به, والفكر فيه….فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر, والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به….وهذا باب عظيم النفع, لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية.

السبب السادس:الإقبال على الله والإخلاص له.فما سعادة من دخل في هذا الحصن

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطن عليه أعداءه,…فما سُلَّط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه, وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها, وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره…فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي, وتسلَّط عيه خصومه شيء أنفعُ له من التوبة النصوح, وعلامة سعادته أن يعكس فِكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه, فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها…والله يتولى نُصرتهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدّ, فما أسعده من عبدٍ, وما أبركها من نازلة نزلت به, وما أحسن أثرها عليه, ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع, فما كلُّ أحد يُوفقُ لهذا.

السبب الثامن: وهو من أصعب الأشياء على النفس وأشقهِّا عليها ولا يوفَّق له إلا من عظُم حظُّه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه فكلما ازداد أذىً وشراً وبغياً وحسداً ازدادت إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقه وما أظنُّك تصدّق بأن هذا يكون فضلاً عن أن تتعاطاه, فاسمع الآن قول الله عز وجل: {﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾} [فصلت/34-36] وقال {﴿ أُولَـئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ } [القصص/54] وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي..ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلُتُ الدم عنه ويقول «(( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ))» كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه:

أحدها: عفوه عنهم.

الثاني: استغفاره لهم.

الثالث: اعتذاره عنهم بأهم لا يعلمون.

الرابع: استعاطفه لهم بإضافتهم إليه, فقال : ( اغفر لقومي ))

واسمع الآن ما الذي يُسهِّل هذا على النفس, ويُطييبهُ لها وينعمها به : اعلم أن لك ذنوباً بينك وبين الله تخافُ عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك, ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تُؤمله, فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابلك به إساءتك, فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقهُ وتقابل به إساءتهم, ليعاملك الله هذه المعاملة, فإن الجزاء من جنس العمل.

السبب التاسع : الصدقة والإحسان ما أمكنه, فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء, ودفع العين, وشرِّ الحاسد, ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأُمم قديماً وحديثاً لكفي به, فما يكادُ العينُ والحسد والأذى يتسلَّط على محسن متصدقٍ, وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللُّطف والمعونة والتأييد, وكانت له فيه العاقبة الحميدة, فالمحسنُ المُتصدِّقُ في خفارة إحسانه وصدقته, عليه من الله جُنَّة واقية وحصن حصين, وبالجملة فالشكرُ حارس النعمة من كل ما يكون سبباً لزوالها….فالمحسن المُتصدِّق يستخدمُ جنداً وعسكراً يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه, فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو فإنه يوشكُ أن يظفر به عدُوُّهُ, وإن تأخرت مُدَّة الظَّفر, والله المُستعان.

السبب العاشر: تجريد التوحيد والتَّرحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسببُ العزيز الحكيم والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح, وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها لا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه فهو الذي يمسُّ عبده بها قال تعالى: {﴿ وَإِن يَمسَسكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلّا هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ فَلا رادَّ لِفَضلِهِ  ﴾}  [يونس/107] وقال النبي علية الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنهما: (( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه الله لك, ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيءٍ كتبه الله عليك )) فإذا جرد العبدُ التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه, وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى…والله يتولى حفظه والدفع عنه, فإن الله يدفع عن الذين آمنوا…وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع وإن مزج مُزج له.

                             [مفتاح دار السعادة]

لا بد لكل نعمةٍ من حاسد.

             كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

كيف تجعل من طفلك محباً للقرآن ؟

١- تلاوة القرآن أمامه؛ لأنه يرى أن والديه قدوة له. ٢- إهداؤه مصحفا خاصا به …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *