الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن المفتي يخبر عن حكم الله سبحانه تعالى في النازلة المعينة، وليس له أن يُشرّع من دون الله، ولا أن يحلل ولا أن يحرم، وإنما عليه أن يخبر عن الله إما بتحليل وإما بتحريم، وإما بوجوب بموجب الكتاب والسنة.
وقد أمرنا الله نحن المسلمين إذا تنازعنا في شيء أن نحكم الله والرسول؛ فقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم، فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن.
والحاصل أن الفتوى بموجب الشرع واجب مطلقًا، في كل زمان ومكان على كل مفتٍ، وهو من الحكم بما أنزل الله على محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو واجب على النبي – صلى الله عليه وسلم – وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وكل من قلد مفتيًا فيما يخطىء فيه فلا بد له من أن يستحل حرامًا ويحرم حلالاً.
قال أبو محمد بن حزم في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام”(5/ 84): “فإن المفتي ليس له أن يشرع ولا أن يحلل ولا أن يحرم، وإنما عليه أن يخبر عن الله تعالى بحكمه في هذه النازلة، ومن المحال أن يكون حكم الله تعالى فيها غير مستقر إما بتحليل وإما بتحريم وإما بوجوب؛ قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، مبين أن الحكم قد استقر في كل نازلة إما بتحريم وإما بتحليل وإما بإيجاب، ومن حلل وحرم باختلاف الفقهاء فقد أقرّ أنهم يحرمون ويحللون ويوجبون فهذا كفر ممن اعتقده، وقوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } [النحل: 116]، مبطلٌ لقول من قال: إن الشيء يكون حرامًا حلالاً باختلاف الفقهاء فيه، ومخبر أن قائل ذلك كاذب، وأنه ما حرم الله تعالى فهو حرام لا حلال، وما أحله تعالى فهو حلال لا حرام”. اهـ.
وقال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (3/ 267-268): “والإنسان متى حلل الحرام – المجمع عليه – أو حرم الحلال – المجمع عليه – أو بدل الشرع – المجمع عليه – كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء؛ وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }[المائدة: 44]، أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله، ولفظ الشرع يقال في عرف الناس على ثلاثة معان: “الشرع المنزل”، وهو ما جاء به الرسول، وهذا يجب اتباعه، ومن خالفه وجبت عقوبته. والثاني: “الشرع المؤول”، وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه، فهذا يسوغ اتباعه ولا يجب ولا يحرم، وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ولا يمنع عموم الناس منه.
والثالث: “الشرع المبدل” وهو الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو على الناس بشهادات الزور ونحوها، والظلم البين، فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع، كمن قال: إن الدم والميتة حلال، ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك”. اهـ.
وقال أيضًا في معرض كلامه على أن كون الشيء بدعة دليل على كراهيته “اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم” (2/ 84-87): “… وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضًا؛ قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى: 21]، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يُشرّعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله.
نعم: قد يكون متأولاً في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك ،كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولاً أو عملاً قد علم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا؛ وقد قال سبحانه {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله ما عبدوهم، قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم”.
فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب؛ فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي أيضا نصيب، ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه، فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه أو لوجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائمًا، ويلحق الذم من تبين له الحق فتركه، أو من قصَّر في طلبه حتى لم يتبين له، أو أعرض عن طلب معرفته لهوى، أو لكسل أو نحو ذلك.
وأيضا، فإن الله عاب على المشركين شيئين: أحدهما أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا، والثاني: تحريمهم ما لم يحرمه الله عليهم.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه مسلم، عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا”، وقال سبحانه {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: 148] وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا، قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله”. اهـ.
إذا تقرر هذا علم أن المفتي إنما يكفر بفتواه إذا أحلّ الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه،، والله أعلم.
Source link