هنيئًا لمن يستقبل رمضان بالطاعات والعبادات، فشهر رمضان مضمار السابقين، وغنيمة الصادقين، وقرة عيون الموحدين، وأيام وليالي رمضان كالتاج على رأس الزمان، وهي مغنم الخيرات لذوي الإيمان.
شتَّانَ شتان بين استقبال المسلمين لرمضان عند السابقين، وفي هذا الزمان، فالسلف رحمهم الله تعالى كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر حتى يبلِّغهم رمضان، فإذا بلغوه اجتهدوا في العبادة فيه، ودعَوا الله سبحانه وتعالى، دعوا الله ستة أشهر أخرى بعده أن يتقبله منهم، هذا حالهم يستقبلونه بالعبادات، ويستقبلونه في الطاعات، وبالأعمال الصالحات.
أما أصحاب الفضائيات والإذاعات في زماننا، فإن معظمهم يستعد لرمضان قبل مجيئه بستة أشهر أو أكثر؛ بحشد كل (فيلم) خليع، وكل (مسلسل) وضيع، وكل غناء ماجن، للعرض على المسلمين في أيام رمضان ولياليه؛ لأن (رمضان كريم) كما يعلنون هم! ولسان حالهم يقول: شهر رمضان الذي أُنزلت فيه الفوازير والمسلسلات!
وقد تم تحضير فيلم لرمضان هذا، سيُعرض في رمضان، وقد كلف عدة ملايين من الدولارات، عن الصحابي الجليل، كاتب الوحي، وخال المؤمنين، والذي أسس مملكةً للمسلمين في أرض الشام؛ هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
فهل مخرج هذا الفيلم أراد بيان فضائل المسلمين عمومًا، والعرب خصوصًا، أو المقصود من هذا الفيلم الحط من قدر الصحابة عمومًا، وأمير المؤمنين معاوية خصوصًا، ويتغاضى عن حسناته ويُعرِض عن فتوحاته؟!
فحذار أيها المسلم من الانجرار وراء مثل هذه الأفكار الشيعية الرافضية، والعلمانية الحداثية الإلحادية المعاصرة.
ولأن مردة شياطين الجن تُصفَّد وتُغَل في شهر رمضان، عزَّ على إخوانهم من شياطين الإنس الذين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، عز عليهم ذلك؛ فناصبوا دين الله تعالى العداء، وأعلنوا الحرب ضده في رمضان، بما يبثونه ليل نهار على مدار الساعة، على كثير من الشبكات الأرضية والفضائية.
أما أحوال عامة المسلمين في استقبال رمضان، وقبل دخول شهر رمضان بأيام، إذا ذهبت إلى الأسواق والمتاجر والجمعيات، فستجد الناس يجمعون أصنافًا من الطعام، وألوانًا من الشراب، بكميات كبيرة، وكأنهم مقبلون على حرب أو مجاعة، وليس على شهر التقوى والصيام، فأين هم مما يحدث لإخوانهم المسلمين المشردين في هذه الأيام؟
وما إن تغمر نفحات هذا الشهر الكريم أرجاء الدنيا، حتى تنقلب حياة كثير من المسلمين رأسًا على عقب، فيتحولون إلى (خفافيش)، فيجلسون طيلة الليل أمام الشاشات، أو يجوبون الأسواق والملاهي والخيام الرمضانية والسهرات، ثم ينامون قبل الفجر، وفي النهار هم نيام كجيف خبيثة.
وعلى الرغم من أن معظم حكومات الدول الإسلامية، تقلل من ساعات العمل الرسمي في رمضان، وتؤخر بداية الحضور، فإن السواد الأعظم من الموظفين والعاملين ينتابهم كسل وخمول وبلادة في الـذهن، ويعطلون مصالح البلاد والعباد، وإذا سألتهم قالوا: (إننا صائمون)، وكأن الصيام يدعوهم للكسل وترك العمل، وهي فِرْيَة يبرأ منها الصيام براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
فما عرف سلفنا الكرام الاجتهاد والجد والنشاط، والعزيمة والقوة إلا في رمضان، وما وقعت غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وفتح الأندلس، وغيرها إلا في رمضان.
والدراسات العلمية الحديثة أثبتت فوائد جمة للصيام، فلماذا – أيها الموظفون – تتهمون الصيام بأنه سببُ كسلِكم وخمولكم؟
وإذا أردت – يا عبدالله يا مؤمن – أن تبكي، فاذرِفِ الدمع مدرارًا، وأجْرِ الحزن أنهارًا على الإعلانات التي تدعوك عبر وسائل الإعلام المختلفة إلى الاستمتاع بتناول السحور، والتلذذ بمذاق الشيشة والنارجيلة، على أنغام المطرب فلان، ورقصات الفنانة فلانة والفرقة الفلانية، في الخيمة الرمضانية في المكان الفلاني.
وإذا سرتَ بعد منتصف الليل في رمضان، في أي مدينة إسلامية، فسترى عجبًا عُجابًا، لو ترى عيناك، فسترى المحلات والأسواق مفتحة فيها الأبواب، وسترى الفتاة العارية وأخرى ذات الحجاب، وأصوات اللهو والأغاني ترتفع إلى السحاب، والمعاصي عيانًا جهارًا، وانقلب الليل نهارًا.
فأين أين أرباب القيام؟ أين أين المحافظون على آداب الصيام؟ أين أين المجتهدون في الصيام والقيام؟ أين المجتهدون في جنح الظلام؟
فشهر رمضان مضمار السابقين، وغنيمة الصادقين، وقرة عيون الموحدين، وأيام وليالي رمضان كالتاج على رأس الزمان، وهي مغنم الخيرات لذوي الإيمان.
فطوبى لعبدٍ تنبَّه من رقاده، وبالغ في حذاره، وأخذ من زمانه بأيدي بداره، فيا غافلًا عن شهر رمضان، اعرِف زمانك، يا كثير الحديث واللغو والكلام فيما يؤذي، احفظ لسانك، يا متلوثًا بأوحال الفضائيات والجلسات المشبوهات، اغسل بالتوبة ما شانك.
إن إدراك رمضان من أجلِّ النِّعَمِ، أن يعطيك الله الصحة والعافية، فتدرك رمضان نعمة عظيمة، فكم غيَّب الموت من صاحب، ووارى من حميم وصديق ساحب! وكم اكتظت أسرة بالمرضى الذين تتفطر قلوبهم وأكبادهم، ويبكون دمًا لا دموعًا حتى يصوموا يومًا واحدًا من أيام رمضان، أو يقوموا ليلة واحدةً من لياليه، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون!
إن كثيرًا من المسلمين في هذا الزمان لم يفهموا حقيقة الصيام، وظنوا أن المقصود منه هو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح فقط، أمسكوا عما أحل الله لهم، لكنهم أفطروا على ما حرم الله عليهم، فأي معنى لصيام هذا الذي يقول عند أذان المغرب:
((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله))، ثم يشعل سيجارته ويغذي أرجيلته، ويشفط أنفاسًا من شيشته؟
وأي تقوى لهذا الذي يجمع الحسنات في النهار؛ من صيام وصلاة وصدقة وقراءة للقرآن، ثم في الليل يصير عبدًا لشهواته، ويعكف على قنواته وشبكاته، أو زبونًا في الملاهي الليلية، والتجمعات الغوغائية، المسماة زورًا بالرمضانية؟ وإذا دُعِيَ إلى صلاة التراويح والقيام، تعلل بالحمى والمرض والأسقام، والبرد والزكام، وغواية اللئام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر»؛ (رواه ابن ماجه وأحمد، (جه) (1690)، (حم) (8856)، (9685)، (خز) (1997)، قال الأعظمي: إسناده صحيح، وانظر صحيح الجامع: (3490)، صحيح الترغيب: (1083)).
يُروى أن الحسن بن صالح – وهو من الزهاد الورعين – كانت له جارية، فاشتراها منه بعضهم، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد، قامت على عادتها، تصيح في الدار، تريد أن توقظ سيدها وأهله للصلاة، فتقول: “يا قوم، الصلاة، الصلاة، فقاموا فزِعين، وسألوها: هل طلع الفجر؟ فقالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟ فلما أصبحت، رجعت إلى الحسن بن صالح، وقالت له: “لقد بِعْتَني إلى قوم سوء لا يصلون إلا الفريضة، ولا يصومون إلا الفريضة فرُدَّني، فردها”؛ (انظر القصة في الثقات للعجلي، ت: قلعجي (ص115)، ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب: (ص346)، ت: عامر).
فيا مضيع الزمان فيما ينقص الإيمان، يا معرضًا عن الأرباح، متعرضًا للخسران، أمَا لك من توبة؟ أما لك من أوبة؟ قال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، فقلوب المتقين إلى هذا الشهر تحنُّ، ومن ألم فراقه تئنُّ، فإلى متى الغفلة؟
فيا عبَّاد الشهوات، ويا أسرى الشبهات، يا عُبَّاد الملاهي والمنتديات، يا عُبَّاد الشاشات والفضائيات، ما لكم لا ترجون لله وقارًا، ولا تعرفون لشهر رمضان حلالًا أو حرامًا؟
فيا من أدركتَ رمضان وأنت ضارب عنه صَفْحًا بالغفلة والنسيان، هل ضمنت لنفسك الفوز والغفران؟ أتُراك اليوم تَفيق من هذا الهوان، قبل أن يرحل رمضان؛ شهر القرآن، وشهر العتق من النيران؟ لعله يكون – بالنسبة إليك – آخر رمضان.
وا حرَّ قلباه من لم يخرج من رمضان إلا بالجوع والعطش، رغِمَ أنفه في الطين والتراب من كان رصيده في رمضان من (الأفلام) و(المسلسلات)، وبرامج المسابقات.
فيا من أسرف على نفسه، وأتْبَعها الهوى، وجانب الجادة في أيامه وغوى، ها قد أقبل رمضان، فجدد فيه إيمانك، وأنْهِ به عصيانك فهو – والله – نعمة كبيرة، ومنَّة كريمة، وفرصة وغنيمة.
فإن أبيتَ إلا التمرد والعصيان، وملازمة المعاصي في رمضان، فتوضأ وكبِّر أربع تكبيرات، وصلِّ على نفسك صلاة الجنازة؛ فإنك حينئذٍ ميت يمشي بين الأحياء.
فهنيئًا لمن يستقبل رمضان بالطاعات والعبادات، وهنيئًا لمن اعتمر استقبالًا لرمضان، ولمن أراد أن يعتمر في رمضان، هنيئًا لمن يثقل موازين حسناته بالحسنات.
أخي المؤمن، أخي المسلم، احرص على تثقيل موازينك بالحسنات، ولا تتسبب في تخفيفها بالمعاصي والسيئات؛ فقد قال الله سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6 – 11]، والهاوية هي النار والعياذ بالله، ويقول تبارك وتعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102، 103].
فلنغتنم – أخي المسلم – تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، حتى نحصل على الخير الموعود، من الرب المعبود، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد.
أكْثِروا من الأعمال الصالحات، وسائر العبادات والقربات، من الصيام والقيام، وإطعام الطعام، وتفطير الصائمين، وإعانة ذوي الحاجات، وإغاثة الملهوف، ومساعدة إخوانك الفقراء والمساكين، ومد يد العون لهم بقدر ما تستطيع، فاتقِ النار ولو بشق تمرة.
أيها المؤمنون، لا تحقِرُوا من المعروف شيئًا، ولو أن تلقَوا إخوانكم بوجه طلقٍ.
أيها الإخوة في الله، استقيموا على طاعة الله، وأقبلوا على مرضاة الله، واجتهدوا فيما يقربكم إلى الله، وضاعفوا الأعمال الصالحة، في هذه الأيام المباركة، تضاعف لكم الأجور عند الله؛ قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
ألَا وصلوا وسلموا على رسول الله، فقد صلى الله عليه في كتابه؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
_______________________________________________________________
الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
Source link