قال الله سبحانه: {… أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
قال الله سبحانه: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 40 – 42].
قال المفسِّرون: أي: وإما نرينك – أيها الرسول – في حياتك بعض العذاب الذي نعد به الكفار والفسقة، أو نتوفينك قبل أن نريك عذابهم، فإنما عليك تبليغهم رسالة الله، وعلينا محاسبة العباد ومجازاتهم على أعمالهم، أولم ينظر الكفار في عهد الرسول أنا ننصر المسلمين ونفتح لهم ديار المشركين أرضًا بعد أرض، فننقص دار الكفار ونزيد في دار الإسلام، والله هو الذي يقضي في خلقه بما يشاء، ويعاقب من يشاء، ولا يُبطل أحد حكمه الكوني بردٍّ أو نقصٍ أو تغييرٍ، والله سريع في محاسبة عباده ومجازاتهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فلله المكر كله؛ لأن أسباب المكر بيده، ومكر الكفار مخلوق لا يضُرُّ إلا بعد إذنه.
الله يعلم ما تعمل كل نفس من خيرٍ أو شَرٍّ، وسيُجازي كل إنسان على جميع أعماله الظاهرة والباطنة، وسيعلم الكُفَّار لمن العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة لهم أو للمؤمنين الذين يعملون الصالحات؟
يُنظر: تفسير ابن جرير الطبري (13/ 574 -580)، تفسير القرطبي (9/ 333 – 335)، تفسير ابن كثير (4/ 472، 473)، تفسير السعدي (ص: 420)، التحرير والتنوير لابن عاشور (13/ 172، 174).
ومثل هذه الآية قول الله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: 44]، وقوله عز وجل: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 50 – 52]، وقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
قال العلامة ابن الجوزي في كتابه زاد المسير في علم التفسير (2/ 501) مبينًا أقوال المفسرين في معنى نقص الأرض: “فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه ما يفتح الله على نبيِّه من الأرض؛ رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والضحاك… والثاني: أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها؛ رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والثالث: أنه نقص أهلها وبركتها؛ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس… والرابع: أنه ذهاب فقهائها وخيار أهلها؛ رواه عطاء عن ابن عباس، والخامس: أنه موت أهلها؛ قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة”.
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 345): ” {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء: 44] اختلف المفسِّرون في معناه، وأحسن ما فُسِّر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27]، وقال الحسن البصري: يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر. والمعنى: أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المُكذِّبة والقُرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين؟! ولهذا قال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} يعني: بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون”.
وقال العلَّامة السعدي في تفسيره (ص: 420): “قال الله متوعِّدًا للمُكذِّبين: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قيل: بإهلاك المُكذِّبين، واستئصال الظالمين، وقيل: بفتح بلدان المشركين، ونقصهم في أموالهم وأبدانهم، وقيل غير ذلك من الأقوال، والظاهر – والله أعلم- أن المراد بذلك أن أراضي هؤلاء المُكذِّبين جعل الله يفتحها ويجتاحها، ويحل القوارع بأطرافها، تنبيهًا لهم قبل أن يجتاحهم النقص، ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يرده أحد، ولهذا قال: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، ويدخل في هذا حكمه الشرعي والقدري والجزائي”.
وقال الشيخ أحمد حطيبة في تفسيره (6/ 12، بترقيم المكتبة الشاملة آليًّا): “علماء الفلك لهم معنى آخر إضافة إلى المعنى الذي ذكره المفسِّرون قديمًا، والمعنى الذي ذكروه عُرف الآن، ولم يكن معروفًا من قبل ألف وأربعمائة سنة، وهذا دليل على أن هذا القرآن العظيم مُعْجِز، فهو في كل وقت يفهم على معنى صحيح موجود فيه، ولا يأتي معنى يلغي معنى آخر، فلا يكون المعنى الذي اكتشفه العلم الآن يلغي المعنى القديم، وإنما المعنى القديم على ما هو موجود، وهو معنى صحيح، وعلماء الفلك يقولون في قوله تعالى: {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44] أن الأرض يحدث لها انكماش دوري، فعندما تنفجر البراكين في داخل الأرض تخرج الغازات من داخلها، وتخرج المواد الموجودة في داخل الأرض، فيصير مكان البركان فارغًا في الداخل فتنكمش الأرض على نفسها، فالأرض تنكمش على نفسها باستمرار، فنقصانها من أطرافها يكون في انكماشها، فهي تنكمش على نفسها شيئًا فشيئًا؛ بسبب البراكين والزلازل، فهذا معنى من المعاني التي يذكرها علماء الفلك، وليس معنى كون هذا التفسير صحيحًا أنه يلغي التفسير الماضي؛ لأنه لا يمكن أن تكون الأمة منذ ألف وأربعمائة سنة ماضية تُفسِّر هذه الآية على معنى خطأ لا يفهمونه من القرآن؛ ولكن هي معانٍ صحيحة، وإنما يُضاف معنى إلى معنى” باختصارٍ وتصرُّف.
وقال الشيخ عبدالله الخالدي في تعليقه على تفسير ابن جُزي (1/ 407): “ربما دلت الآية على ما يحدث في الأرض من خسف وغرق لبعض الأماكن والجزر في المحيطات بسبب الزلازل والبراكين كما صار مشهورًا في أيامنا”.
وجاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية، فتوى للشيخ عطية صقر، مؤرخة عام 1999م: “الله سبحانه ينقص الأرض من أطرافها، وللعلماء فى ذلك تفاسير كثيرة، منها التعمير والتخريب بعوامل التعرية أو بالزلازل والبراكين”؛ فتاوى دار الإفتاء المصرية (10/ 363، بترقيم الشاملة آليًّا) باختصار.
فالله هو الذي يتحكَّم بالقارات حركةً وزحفًا وانحسارًا، ويديل المسلمين على الكُفَّار فيحتلُّون بلداتهم، ويقبض علماء الأرض، فيتغلب المسلمون على الكفرة، ويأخذون من أراضيهم، والله يحكم لا مُعقِّب لحكمه، من الذي يتحكَّم بالتصحُّر وزحف الرمال، ويجعل هذه قاحلة جرداء، وهذه الرمال تدفن الزروع، وفي كل عام يقولون: يفقد العالم 691 كيلو مترًا مربعًا من أراضيه الزراعية نتيجة لعملية التصحُّر؛ مما يؤدي إلى خسائر تصل إلى 40 بليون دولار سنويًّا في المحاصيل السنوية، وينقل الله عز وجل الماء من مكان إلى مكان، كما في الحديث: «لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا»؛ (رواه مسلم) ، فيتحكَّم الله سبحانه في تغيُّرات التربة والمياه والأشياء الزراعية، ويتحكَّم الله عز وجل في التغيُّرات المناخية، يشهدون أشياء عجبًا في المناخ اليوم، وأحوال حر وبرد وغبار واعتدال، وهكذا تتوقع الأرصاد شيئًا ثم يخرج شيء آخر، من الذي يتحكَّم بالغلاف الجوي والقبة الواقية للأرض، هل هم العباد؟! مَنِ الذي يرسل العواصف المدمِّرة والزلازل التي يمكن أن تخرب أشد البلاد تقنية؟!.
وقال الدكتور حسني الدسوقي في رسالته وقائع حول الزلزال (ص: 19): “لا يسع أي عالم من علماء الجيولوجيا في العالم أجمع إلا أن يشهد بعظمة العلم القرآني في مجال علوم الأرض. آيات تحمل إشارات علمية عميقة عن إنقاص أطرافها… وما وقائع زلزال المحيط الهندي الكبير الذي ضرب الأرض إلا تفسير عملي لتلك الإشارات القرآنية التي لم يعرفها علماء الجيولوجيا إلا منذ مطلع الستينيَّات من القرن العشرين” باختصار.
والله أعلم بكتابه، والقرآن لا تنقضي عجائبه، قال العلامة ابن الحاج في المدخل (1/ 75): “عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بُدَّ له أن يأخذ منه فوائد جَمَّة خصَّه الله بها، وضمَّها إليه؛ لتكون بركة هذه الأُمَّة مستمرةً إلى قيام الساعة”.
وقال العلامة الألوسي في تفسيره روح البيان (3/ 358): “كون الكتاب والسُّنَّة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهمًا يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المُفسِّرين والفقهاء المجتهدين في الدين، وكم ترك الأول للآخر”.
_________________________________________________
الكاتب: د. محمد بن علي بن جميل المطري
Source link