لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين

عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قَال رَسُولُ الله ﷺ: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَين، إِلا رَجلاً كانَ يَصُومُ صَوماً فَلْيَصُمْهُ».

عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَين، إِلا رَجلاً كانَ يَصُومُ صَوماً فَلْيَصُمْهُ».

لاتَقَدَّموا: أَصله لاتتقدموا.

♦ مقدمةٌ بين يدي الحديث:

الصيام أصله في اللغة: الإمساك.

وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات مع النية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وصيامُ شهر رمضان، هو الركن الرابعُ من أركان الإسلام.

 

 والصيامُ من أفضلِ العبادات؛ لأنه تجتمع فيه أنواعُ الصبر الثلاثة:

1- الصبرُ على طاعة الله.

2- والصبرُ عن معاصي الله.

3- والصبر على أقدار الله المؤلمة.

ولأنَّ اللهَ تعالى نسب الصوم إلى نفسه، ووعد بالجزاء عليه من قِبَلِه سبحانه.

ولأنه سرٌّ بين الربِّ وبين عبده، فهو من أعظم الأمانات.

 

 أمَّا حِكَمُه وأسرارُه؛… فأكثر من أن تُحصى في هذه العجالة.

وإنما أشير إلى قليلٍ من كثير، ليعلمَ القارئُ شيئاً من أسرارِ الله في شرعه، فيزدادَ إيماناً ويقيناً في وقتٍ تزعزعت فيه العقائد، وتضعضعَ فيه الإيمان، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

 

فمن تلك الحكم الساميةِ؛ عبادةُ الله سبحانه، والخضوعُ له، ليكونَ الصائم مُقْبلاً على الله تعالى، خاضعاً خاشعاً بين يديه، حينما ينكرُ سلطانَ الشهوة.

فإن القوَّةَ تُغري بالطغيان والبطر، قال سبحانه: ﴿  {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}  ﴾ [العلق: 6، 7].

 

فليعلمْ أنه ضعيف فقير، بين يدي الله سبحانه حينما يرى ضعفَه وعجزه، فينكرُ في نفسه الكِبْرَ والعظمةَ، فيستكين لربه، ويلينُ لخلقه.

ومنها، حِكَمٌ اجتماعيَّةٌ، من اجتماعهم على عبادةٍ واحدة، في وقتٍ واحد، وصبرِهم جميعاً، قويِّهم وضعيفِهم، شريفِهم ووضيعِهم، غنيِّهم وفقيرِهم، على معاناتِها وتحمُّلِها، مما يسبِّبُ ربْطَ قلوبِهم وتآلفَ أرواحِهم، وَلَمَّ كلمتِهم.

 

وليس شيءٌ أقوى من هذه الإرادةِ المتينة، التي لا تحكمها أقوى الدعايات.

كما أنه سببُ عطفِ بعضِهم على بعض، ورحمةُ بعضهم بعضاً، حينما يُحِسُّ الغنيُّ أَلـمَ الجوع، ولَدْغَ الظَّمأ.

فيتذَكَّرُ أنَّ أخاه الفقيرَ يعاني هذه الآلامَ دَهْرَه كلَّه، فيجودُ عليه من مالهِ بشيء يزيل الضغائنَ والأحقاد، ويَحِلُّ محلَّها المحبةُ والوئام، وبهذا يتمُّ السِّلْمُ بين الطبقات.

 

ومنها، حكم أخلاقيَّةٌ تَربوِيَّة، فهو يعلِّمُ الصبرَ والتحمُّلَ، ويقوِّي العزيمةَ والإرادة، ويُمَرِّنُ على ملاقاةِ الشدائدِ وتذليلِها، والصعابِ وتهوينِها.

ومنها حِكَمٌ صِحَّيَّة، فإنَّ المعدةَ بيتُ الداء، والحِمْيةَ رأسُ الدواء.

ولابدَّ للمعدةِ أن تأخذَ فترةَ استراحةٍ واستجمام، بعد تعبِ توالي الطعامِ عليها، واشتغالِها بإصلاحِه.

هذه نَبَذةٌ يسيرةٌ إلى شيء من حِكَمِ الله تعالى وأسراره…

 

والآن مع الحديثِ الأول من كتاب (االصيام)، وهو الحديث المرقوم بـ(184):

عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَين، إِلا رَجلاً كانَ يَصُومُ صَوماً فَلْيَصُمْهُ».

 

معاني الكلمات والجُمَل:

(لا تَقَدَّموا): بفتح التاء والدال، على حذف تاء المضارعة؛ لأن أصله: لا تتقدموا…

(بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَين) والمقصود لا تستقبلوا شهر رمضان لا بصوم يوم ولا يومين.

(إلاّ رجلا) الاستثناء هنا ليس خاصًّا بالرجال؛ بل يشمل النساءَ أيضاً.

(يصوم صوما) أي يصوم أياما اعتادها من اثنين وخميس، وسَرَرِ الشهر، ونحوِ ذلك.

 

شرح الحديث:

عرفنا أن ّالصيامَ شرعاً: هو الإمساك بنيَّة التقرُّب بتركِ ما حرم الله على الصائم من المفطرات؛ من أكْل وشرْب وجماع ونحو ذلك.

والصيام قسمان: 1- فرضٌ. 2- ونفلٌ.

والفرض: هو صيام رمضان؛ وهو الرابعُ من أركان الإسلام الخمسة، وهو شهر واحدٌ في السنة، فرضه الله على المكلَّفين من الرجال والنساء.

ويُلحقُ في ذلك صومُ الكفَّارات الفرض؛ ككفارة الظهار، وكفارةِ الوطء في رمضان، وكفارة القتل، هذا فرضٌ فرضه الله سبحانه وتعالى.

 

فالصيام؛ كفارة القتل إذا عجز عن العتق، ومثل هذا كفارةُ الحِنث في الحلف إذا عجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق، وكفارة الوطء في نهار رمضان إذا عجز عن العتق، يكون عليه الصيام إن استطاع، وكذلك كفارة قتل المحرم للصيد، وكفارة الفدية في الحج، وكفارة من لم يجد الهدي، وكفارة الظهار.

 

ومن الفرض أيضاً؛ النذور، إذا نذر مثلا فقال: لله علي أن أصومَ كذا، أو أصومَ يومَ الاثنين، أو أصومَ يومَ الخميس أو يوم كذا.

ويكون نفلاً؛ مثلُ صومِ يوم الاثنين أو الخميس تطوُّعًا، وصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر، وصيامِ ستٍّ من شوال، وصيامِ يومٍ وإفطارِ يوم، هذا يسمى صومُ تطوُّعٍ.

 

ففي شرعنا الحكيم لا بد من التمييز بين العبادات والعادات، والتمييزِ بين العبادات نفسها، بين فروض العبادات ونوافلِها، ليحصلَ الفرقُ بين هذا وذاك.

لذا؛ فإنه نهى عن تقدُّمِ شهرِ رمضانَ بصيامِ يومٍ أو يومين أو نحوِ ذلك؛ ليكون مفطراً مستعدًّا لصيام شهر رمضان؛ إلاّ من كان له عادةٌ من صومٍ؛ كيوم الخميس أو الاثنين؛ أو قضاءٍ تضايقَ وقته، أو نذرٍ لزمه، فليصمْه؛ لأنه تعلَّقَ بسببه.

بخلاف نفلِ الصيام المطلق قُبيل رمضان؛ فأقلُّ ما فيه الكراهة.

 

♦ ما يؤخذ من الحديث:

1- النهيُ عن تقدُّمِ رمضانَ بصيامِ يومٍ أو يومين.

2- الرخصةُ في ذلك لمن صادَفَ قبل رمضان له عادةُ صيام، كيومِ الخميس والاثنين.

3- من حكمة ذلك -والله أعلم- تمييزُ فرائضِ العباداتِ من نوافلها، والاستعدادُ لرمضانَ بنشاطٍ ورغبة، وليكونَ الصيامُ شعارَ ذلك الشهرِ الفاضل المميَّزِ به. [2]

 

♦ ملحق:

روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا». [3]

قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ.

وَمَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُفْطِرًا، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ شَعْبَانَ شَيْءٌ أَخَذَ فِي الصَّوْمِ لِحَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

 

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُشْبِهُ قَوْلَهُمْ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ، إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ. وَقَدْ دَلَّ فِي هَذَا الحَدِيثِ؛ أَنَّمَا الكَرَاهِيَةُ عَلَى مَنْ يَتَعَمَّدُ الصِّيَامَ لِحَالِ رَمَضَانَ). انتهى قول الترمذي.

 

وقال الشيخ ابن باز على قول المصنف: (وقد دَلَّ في هَذَا الحديثِ؛ أنَّمَا الكَرَاهِيةُ عَلَى من يَتَعَمَّدُ الصِّيَامَ لِحَالِ رَمضَانَ). والمعنى؛ أن يبتدئ الصومَ بعدَ نصفِ شعبان؛ لأنه مَظِنَّةُ التحيُّلِ للتحرِّي لرمضان، وصيامِ يوم الشكِّ)]. [4]

 

ومما يدل على أنه يجوز الصيام بعد النصف من شعبان، وقُبَيلَ رمضان لمن له عادةٌ قبل ذلك؛ ما ثبت عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَوْ لِآخَرَ: «أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ» ؟! قَالَ: (لَا!) قَالَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ». [5]

 

و[(سُـَرر الشهر) بفتح السين وضمها، وعن الفراء: أنه أجود -أعني: الفتح- وسَراره بالفتح والكسر، وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها:… أنه آخر الشهر يستتر الهلال، وبه قال عبد الملك بن حبيب: لثمان وعشرين ولتسع وعشرين، فإن كان تامًّا فَلَيلةَ ثلاثين…

ثانيها: أنه وسطه، وسِـَرار كلِّ شيء وسطه وأفضله، كأنه يريد الأيام الغُرَّ من وسطه.

ثالثها: … سُرَّة الشهر أوله، وعن الأوزاعي أنه آخره، حكاهما الخطابي، وحكاهما البيهقي عنه، وقال: الصحيح آخره…]. [6]

 

و[… الأظهر أنه الآخِر كما قال الأكثر؛ لقوله: فإذا أفطرت فصم يومين…، والمشار إليه شعبان، ولو كان السررُ أوّلَه أو وسطَه لم يفته]. [7]

ويؤيد هذا القول أنّ سَرَرَ الشهرِ آخرُه، قوله صلى الله عليه وسلم في رواية: فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ. [8]

[هذا الحديث محمول على أن هذا الرجل له عادة من صيام آخر الشهر فتركها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أفطر من رمضان أن يقضيها،..]. [9]

 

والأحسنُ أنَّ الصومَ بعد نصفِ شعبانَ منهيٌّ عنه، ويشتدّ النهيُ في التقدّمِ بيومٍ أو يومين، وأما حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، = أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئًا» ؟ قَالَ: (لَا!) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ». [10]

 

فلا يدخل في النهي؛ لأنه قاله لرجل اعتاد الصوم، فلما سمع النهي عن التقدّم ترك عادته، فأمره النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم بأن يصوم مكانَ صومَه الذي تركه…]. [11]

هذا والله تعالى أعلم

وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه ومغفرتُه وطيِّبُ صلواتِ


[1] [الجَمَّاعيليّ: بالفتح والتشديد والعين مهملة، إلى جَمَّاعِيل بأرض فلسطين، انتهى]. من (لب اللباب في تحريرالأنساب) للسيوطي (ص: 66).

[2] بتصرف من (تيسير العلام شرح عمدة الحكام) للبسام (1/ 287- 289)، وشرح كتاب الصيام من عمدة الأحكام لابن باز.

[3] (ت) (738).

[4] الدرر البهية من الفوائد البازية- كتاب الصيام- (ص: 128).

[5] (م) 19- (1161)، (خ) (1983).

[6] بتصرف من (التوضيح لشرح الجامع الصحيح) (13/ 487).

[7] شرح القسطلاني (3/ 413).

[8] (م) 200- (1161).

[9] قاله في (شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري) لأبي محمد، عبدِ الله بن مانع بن غلاب الغبيوي الروقي العتيبي (ص: 193).

[10] (م) 200- (1161).

[11] ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 397).

____________________________________________________

الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد

المصدر: (كِتاب الصيَام)، من (عمدة الأحكام من كلام خير الأنام صلى الله عليه وسلم).


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *