وخلق الإسلام.. الحياء – طريق الإسلام

“إن الحياء في المجتمعات صمام أمان، ومصدر صيانة، فإنه يرتفع بأخلاق أفراده، ويسموا بآدابهم، ويزيد ترابطهم، ويعزِّز لُحْمَتهم، ويقوِّي أُلْفَتهم، ويسوقهم إلى ذُرا المجْد والكرامة..”

بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، وصالح الأخلاق؛ إذ حسن الخلق يزين الإنسان، ويثقل الميزان، ويزيد الإيمان.. قال عليه الصلاة والسلام: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»(رواه أبو داود بسند صحيح).

وقد جعل الله تعالى لكل دين من الأديان خلقا يتميز به، وجعل خلق هذا الدين دين الإسلام الحياء، فإن الإسلام زينةُ الأديان كما أن الحياء زينة الأخلاق؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ»(رواه ابن ماجه بسند حسن).

والحياء مقرون بالإيمان، فإذا وجد أحدهما وجد الآخر معه، وإذا رفع أحدهما رفع الآخر برفعه، وكذا هما في الزيادة والنقصان، قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَر»(رواه الحاكم بسند صحيح).

تعريف الحياء:
وقد عرف العلماء الحياء: فقال ابن القيم: “الْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَمِنْهُ الْحَيَا لِلْمَطَرِ، لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ، وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَحْيَى كَانَ الْحَيَاءُ أَتَمَّ”.

وقَالَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: “الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ، وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ”.
وَقال أيضا: “حَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ”.
وعرفه بعضهم تعريفا جامعا فقال: “هو خلق يحمل صاحبه على فعل الجميل وترك القبيح”..

ولهذا كان الحياء شعار الصالحين، ودثار المتقين، ودليل عقل وخلق ودين، وهو في الدنيا طريق خير وصلاح، وفي الآخرة سبيل سعادة وفلاح.

قال ابن القيم رحمه الله وهو يتكلم عن الحياء: “الحياء أصل لكل خير، وهو أفضل وأَجَلّ الأخلاق، وأعظمها قَدْرًا، وأكثرها نفعًا، ولولا هذا الخلق لم يُوفَ بالوعد، ولم تُؤَدَّ الأمانةُ، ولم تُقْضَ لأحد حاجة، ولا تحرَّى الرجل الجميلَ فآثره، والقبيحَ فتجنبه، ولا سُتِرَ له عورة، ولا امتنع عن فاحشة…، ولم يَرْعَ لمخلوق حقًّا، ولم يَصِلْ له رَحِمًا، ولا بر له والدا”.

وصدق رحمه الله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء خير كله»، وبوب البخاري في صحيحه “باب الحياء من الإيمان”، وروى فيه عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه فإن الحياء من الإيمان).

فصِفةُ الحياءِ صِفةٌ مَحمودةٌ على الدَّوامِ؛ فلا يدخُلُ الحياء في شيءٍ إلَّا أكمَلَه وزيَّنه وجمَّلَه. قال صلى الله عليه وسلم: «ما كانَ الفُحشُ في شيءٍ إلَّا شانَهُ، وما كانَ الحياءُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ»(رواه أحمد والترمذي وابن ماجه).

صفة الباري سبحانه:
والحياء فوق ذلك كله، فإنه صفة من صفات الباري جل جلاله وتقدست أسماؤه، فهو يستحي حياءَ جودٍ وكرم وتفضل وإحسان، حياءً يليق بجلاله وكماله وجماله
{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق به فقال: (إ «نَّ اللَّهَ حيِىٌّ كريمٌ يستحي إذا رفعَ الرَّجلُ إليْهِ يديْهِ أن يردَّهما صفرًا خائبتينِ»(صحيح الترمذي).

وكذلك فإنه سبحانه يحب الحياء ويحب أهله: ففي سنن أبي داود والنسائي بسند صحيح عن يَعْلَى: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبَــرَاز فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ حَلِيمٌ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ، يحبُّ الحَيَاء والسَّتْر، فإذا اغتسل أحدكم فليَسْتَتِر».
والبَراز بفتح الباء: “هو المكان الذي يخرج الناس إليه لقضاء حوائجهم”.

الحياء خلق الملائكة والمرسلين:
الحياء خلق كريم، ولهذا يتصف به أكرم الخلق فهو من صفات الملائكة المكرمين، وسمات النبيين والمرسلين، فقد وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام فقال فيما رواه البخاري:
«إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ»

وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ملك ناصية الحياء، وبلغ منه ذراه؛ فقد وصفه أصحابه ومنهم أبو سعيد الخدري فقال: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد حياءً من العذراء في خِدْرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه)(رواه أحمد).

قال النووي: “معناه أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يتكلم بالشيء الذي يكره لحيائه، بل يتغير وجهه، فنفهم كراهيته، وفيه فضيلة الحياء”.

وعن عائشة رضي الله عنها: (أنَّ امْرَأَةً من الأنصار جاءت تسأل النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن غُسْلِهَا مِنَ المَحِيضِ، فأمَرَهَا كيفَ تَغْتَسِلُ، قالَ: «خُذِي فِرْصَةً مِن مَسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بهَا» ، قالَتْ: كيفَ أتَطَهَّرُ؟ قالَ: «تَطَهَّرِي بهَا» ، قالَتْ: كيفَ؟ قالَت عائشة: فاسْتَحْيا، فأعْرَضَ بوَجْهِهِ، وقال: «سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِي». قالت عائشة: فَاجْتَبَذْتُهَا إلَيَّ، فَقُلتُ: تَتَبَّعِي بهَا أثَرَ الدَّمِ)(رواهما البخاري).

وقد تعلم الصحابة رضوان الله عليهم من نبيهم الحياء حتى بلغ بعثمان الحياء مبلغا جعل الملائكة تستحيي منه من شدة حيائه، وحتى قال عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه: «ألا أسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ المَلائِكَةُ» (أخرجه مسلم).

الحياء منهج حياة:
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء منهج حياة، وضابطا للإنسان يضبط به أعماله وأفعاله؛ فعَنْ أبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»(الْبُخَارِيُّ).

وفيه معان عديدة، منها:
– من نزع منه الحياء لم يبال بما يفعل، حلالا أم حراما، كريما أو خبيثا، صالحا أو طالحا، لأنه لا حياء عنده من الله ولا اعتبار للناس في نظره. فهو جرئ على القبائح، مقبل على النقائص.

– وقيل هو من باب التهديد، أي يا قليل الحياء افعل ما شئت فسوف تجازى به، مثل قوله تعالى: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.

– كل عمل لا يستحيا منه، لا من الخلق ولا من الخالق، فلا بأس عليك أن تفعله.
وفيه معان أخرى، وخلاصته أن الحياء حامل على فعل ما يمدح، عاصم عن فعل ما يستقبح، فمن كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه، وأن من قل حياؤه قبح فعله، ومما يروى عن عمر رضي الله عنه: “من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه”.

صور من الحياء:
والحياء يكون من الناس: فيستحي الإنسان أن يأتي أمامهم بنقيصة، أو يفعل ما يشينه أمامهم، ولا ما يطعن في خلقه وديانته عندهم، وليس هذا من الرياء وإنما صيانة للنفس والدين، وهو نوع حياء وجبلة، وهو محمود لأنه حياء من إتيان معصية الله جهرا، والمجاهرة بالذنوب علامة استخفاف بأوامر الله، وعدم اعتبار لنظر الخلق ولا يديم فعله إلا فاسق مطعون في ديانته.. قال صلى الله عليه وسلم:
«كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه»(متفق عليه).

فإذا كان هذا فيمن فعل المعصية خفية ثم تكلم بها، فكيف بمن يجاهر بها علنا أمام الخلق، لا يستحي من الله ولا يستحي من الناس؟

والحياء يكون من الملائكة: فإنهم عباد مكرمون، يصاحبون الإنسان في كل أمره، يكتبون ما يفعل، ويسطرون ما يقول وما يعمل، فيستحيي أن يسمعوا منه ما يؤذيهم، أو أن يقيدوا عليه ما يفضح أو يشين.

ومن الحياء الحياء من النفسوهو حياء النفوس الشريفة، فالإنسان المؤمن يستحي من نفسه أن يأتي بالنقص أو بما يخل الشرف أو الكرامة، أو بما ينتقص به أمام الله أو أمام خلقه، وهذا من أكمل أنواع الحياء؛ لأن من استحى من نفسه كان استحياؤه من غيره أجدر.

الحياء من الله: أما أعظم أنواع الحياء فهو الحياء من الله سبحانه جل في علاه
. فتستحي من الله أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك.
. تستحي من الله أن يقابلك بالإحسان وتقابله أنت بالعصيان.
. تستحي من الله أن يمن عليك بأنواع النعم ثم تذهل أنت عن شكرها وتسعى بمخالفته في كفرانها.
. تستحي من الله أن تراقب الناس وتستخفى منهم بالذنب، فإذا خلوت بارزته بمساخطه ولا تستحي من نظره إليك وتجعله أهون الناظرين إليك كما قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وهو معهم} [النساء:108].

. أعظم الحياء أن تستحي في خلواتك كما تستحي في جلواتك، وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام رجلا من المسلمين فقال: «أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلا صالحا من قومك» (وراه الترمذي بسند حسن).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«استحيوا مِن الله حقَّ الحياء». قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: «ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء».

قال ابن رجب: “يدخل فيه حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى، يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ اللِّسان والفرج”.[جامع العلوم والحكم:464].

النساء والحياء:
وإذا كان الحياء في الرجال مروءة وأخلاقا وكمالا وجمالا، فإنه في النساء أكمل وأجمل، وهو فيهن زينة وجمال، وحسن وبهاء وعفة ودلال، وهو أزين زينتهن وأفضل أخلاقهن.

وجلباب الحياء أعظم ما تستتر به المرأة المسلمة، وله أثر عظيم في صلاح أقوالها وأفعالها وتصرفاتها. وإن من علامات حيائها قرارَها في بيتها، ووقارها في حديثها، وإسباغ جلبابها عند خروجها، وابتعادها واعتزالها مجامع ونوادي الرجال، وفرارها من مواطن الاختلاط، وغلبة الستر والصيانة والعفة عليها.

وإذا تركت المرأة الحياء فسد طبعُها، وقل سترها، وظهرت مساوئها، وأبدت مفاتنها، وبرزت للرجال وأكثرت من مخالطتهم، وإظهار زينتها أمام الأجانب منهم، وربما تشبهت بهم، أو تساهلت في الكلام والحديث معهم، وربما قل الحياء أو انعدم في بعضهن فأظهرن زينتهن للأجانب ولا يتحرجن عن فعل ما يخدش، كما هو حال كثير من نساء هذا الزمان.

المجتمعات والحياء:
إن الحياء في المجتمعات صمام أمان، ومصدر صيانة، فإنه يرتفع بأخلاق أفراده، ويسموا بآدابهم، ويزيد ترابطهم، ويعزِّز لُحْمَتهم، ويقوِّي أُلْفَتهم، ويسوقهم إلى ذُرا المجْد والكرامة، ويشيع بينهم الخصال الكريمة والفعال الحميدة، ويدعوهم إلى الخير والبر ومكارم الأخلاق، فيُحتَرم أهلُ الفضل، وتُصان الحرمات، ويُترفَّع عن السفاسف والرَّذائل، ويزداد المجتمع بذلك أمنًا وأمانًا، وخيرًا وصلاحًا.

وأما قلَّة الحياء في المجتمع، فنتيجتُها ونهايتها وقاحة وسفالة ورذالة وبذاءة. وإذا ذهب الحياء فسدت الأذواق، وساءت الأخلاق، وظهر بين الناس فحش القول، ونابي الألفاظ، ونقائص الأعمال والأفعال. فتقل المروءة، ويرقُّ الدِّين، وتنزع العفَّة، وتهتك الحرمات، ويعلن بالفواحش.

وإذا ذهب الحياء ضاعت الرجولة ورفعت من بين الذكور أخلاق الفرسان ومروءة الشجعان، ويصيرون مسخا لا هم من النساء، ولا هم من جملة الرجال، فإذا ذهب الحياء فكبر على أهله أربعا، واقرأ على الدنيا السلام:
إذا رزق الفتى وجها وقاحــــا…. تقلب في الأمور كما يشاء
فلا والله ما في العيش خـير …. ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *