ما هو المنهج الذى يجب أن يتبعه الناس؛ حتى يجدوا السعادة فى حياتهم ؟
إنَّ فلسفة النَّاس في الحياة، ومنهاجهم فيها: تنبع وتتولد دائما تبعا لإدراكهم لمفهوم الإنسان، وتصويرهم لطبيعته التركيبية.
كل ذلك وفقا لقدر معلوم وأسلوب معين.
إذن فإن المنهاج الحقيقى المؤدى إلى سعادة الإنسان، لابد أن تتوفر فيه الشروط الآتية:
أولا – معرفة طبيعة الإنسان، والوقوف على جميع مطالبه الفطرية.
ثانيا – تحقيق كل ما يحتاج إليه بطبية الخلقة والفطرة.
ثالثا – أن يكون هذا التحقيق بأسلوب معين، وكيفية معلومة، من شأنه أن يؤدى إلى السعادة عند تطبيقه تطبيقا جيدا.
لأن القانون قد يكون سليما من العيوب فى حد ذاته؛ ولكن اتخاذ طريقة غير صحيحة لتطبيقه: يؤدى إلى نتيجة سيئة.
بعد إيجاز هذه الحقائق، ووضع ميزان للمنهج الحقيقى: علينا أن نبحث بهذا الميزان، عن المنهاج المطلوب.
نبحث ذلك فى الأديان، والفلسفات، ثم نبحث أخيرا فى الإسلام؛ وذلك بدون تحيز إلى دين من الأديان، أو فلسفة من الفلسفات.
وهي ترمي من وراء ذلك إلى إفناء الذات الفردية فى الله؛ إعتقادا منها ان ذلك هو السبيل الوحيد للخلاص من عذاب الآخرة، إذ لا يستطيع الله حينئذ: معاقبة الإنسان لزوال جسمه المادى، وحلول روحه فى روح الله.
ولكن هذه الديانة لم تستطع بذلك إسعاد الذين يدينون بها؛ بل ظل هؤلاء – وهم مئات الملايين من البشر – فى بؤس وشقاء، وهملة؛ منكوبين، مغلوبين على أمرهم. وما ذلك إلا لأنهم اتبعوا منهاجا منحرفا: لم يقم على أساس تصور شامل لطبيعة الإنسان بل قام على أساس تصور جزء واحد من كيان الإنسان وإغفال الأجزاء الباقية، أو جهلها.
وذهبت أيضا فلسفة الرهبنة المسيحية مذهبا قريبا من هذا الاتجاه. وهو الاتجاه نحو تهذيب الروح ورعايتها؛ دون الاهتمام بمطالب الجسم المادية فى الحياة.
من أجل هذا: حرموا النكاح على أنفسهم، واستحبوا الانزواء والعزلة.
وجدير بالذكر: أن الرهبنة ليست من جوهر دين المسيح، وإنما هى بدعة ابتدعها رجال الدين المسيحيى. واصدق دليل على هذا قوله تعالى {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} لأن مثل هذا الاتجاه، بمثل هذا الاسلوب؛ يخالف الحكمة، وذلك يستحيل أن تكون من جوهر دين المسيح؛ الذى هو جزء من منهاج الله الواحد؛ كما ذكرنا سابقا.
وهناك الفلسفة المثالية الأفلاطونية القديمة: كانت تدعوة إلى الاهتمام بالعقل، وتحقيق مطالبه الأساسية: من المعرفة والعلم، وما كانت تهتم بالنواحى الأخرى من الإنسان لذا فهم قد عاشوا فى الخيال أكثر مما عاشوا فى الواقع.
عاشوا فى أجزاء العقل بعيدا عن الواقع المادى.
يسرحون بعقولهم فى عالم المثل المخمن، واعتبروا هذه الحياة: خيالات وهمية، أو أنها ظل لهذا العالم العلوى المثالى !
ولهذا فإن الاهتمام بهذه الحياة، وما فى هذا العالم السفلى: اهتمام بما لا يستحق الاهتمام به، وإنما الذى يستحق الاهتمام، والغوص فى جوهره؛ هو ذلك العالم المثالى.
غير أن هذا الاتجاه أيضا: غير سليم؛ لأنه تناسى جانب الجسم، والمادة.
ومن ثم فلم يجد هؤلاء فى حياتهم: السعادة الكاملة الشاملة؛ وإن سعدوا سعادة جزئية: بالاهتمام بلذة العقل.
ولكن الرغبات المادية، الممثلة جزءا كبيرا من كيان الإنسان: ظلت تضيق من هذا الاتجاه المنحرف؛ حتى انفجرت ضدها ثورة فتولد منها ما يسمى بالمذهب المادى فى اتجاه الناس.
وهناك فلسفة أخرى: اتجهت طريقا ثالثا لسعادة الإنسان فى الحياة؛ وهى فلسفة مذهب اللذة الحسية؛ التى تمتد أصولها إلى الفيلسوف اليونانى أرستبوس تدعو هذه الفلسفة: إلى تحقيق مطالب الجسم؛ لأن السعادة – فى نظرها – إنما تتحقق للإنسان: من إشباع رغباته المادية الشهوانية.
وهكذا أخذ هذا الاتجاه: جانب الجسم، ونسى جانب العقل والروح.
ولا شك أن هذه الفلسفة لا تليق بمكانة هذا الإنسان، لا تليق بمكانته الأخلاقية السامية، بل تنزل به إلى منزلة الحيوان المتوحش؛ فلا يعرف للناس حقوقا، ولا حرمات.
لا لأخلاقية السامية، بل تنزل به إلى منزلة الحيوان المتوحش؛ فلا يعرف للناس حقوقا، ولا حرمات.
فإنه إذا أراد تحقيق سعادته: لم يرتدع عن ارتكاب أفحش الجرائمك من سفك الدماء، وانتهاك أعراض الناس، والاعتداء على حقوقهم.
ثم إنها لا تحقق السعادة كما تزعم؛ إذ ليس من الممكن أن يجد الإنسان كل ما تشتهيه نفسه فى كل حين؛ إما لانعدام المطلوب عند الطلب؛ وإما لوجود مانع من الموانع يحول دونه، ويمنعه من الوصول إليه.
فإن مطالب الإنسان كثير، وموانعها كثيرة أيضا، قد يكون أحيانا تحقيقها مستحيلا، أو قريبا من الاستحالة.
إذن فالسعادة لا يكن أن تتحقق للإنسان بهذه الفلسفة، وبهذه الطريقة؛ بل إن هذه الفلسفة: أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.
ولنفرض أن الغنسان حقق جميع مطالب جسمه فى حينه؛ فإن حرمان الروح والعقل: يجعله فى قلق، واضطراب، من حين إلى آخر.
وقريب من هذه الفلسفة: فلسفة الوجوديين الملحدين؛ الذين لا يقرون فى حياتهم الجانب الروحى؛ لعدم اعترافهم بوجود ما يسمى بالروح فى الوجود أو فى العالم؛ وبالتالى فلا وجود للإله الخالق.
إذن ما الطريقة المثالية التى تؤدى بالإنسانية إلى السعادة ؟
وبعبارة أخرى: ما هو المنهج الذى يجب أن يتبعه الناس؛ حتى يجدوا السعادة فى حياتهم ؟
إن هذا المنهج – منهاج السعادة الحقيقية – يجب أن نبحث عنه، وقد بحثنا عنه فى الفلسفات، وبعض الأديان؛ فلم نجده كاملا وشاملا؛ ولنبحث عنه الآن فى الإسلام.
الروح وحقها فى الحياة الإسلامية:
وإذا بحثنا فى الإسلام: وجدنا أنه يترف أولا بوجود الروح، فهى فى نظره عبارة عن موجود غير مرئى؛ أودعها الله تعالى فى الإنسان: لمعرفته، وللأتصال به أولا. ولتدفع الإنسان إلى تحمل مسئولياته الإنسانية فى الحياة ثانيا. وهي وإن كانت غامضة علينا؛ من حيث كنها وجوهرها؛ فإنها ظاهرة من حيث آثارها فى السلوك، وفاعليتها فى الأبدان، ولما كانت متأصلة فى الإنسان، فطرية فيه؛ فلا بد أن يكون لها مطالب تتغذى بها، وتتقوى بتغذيتها؛ كما أنها تضعف، وتضيق بالحرمان منها.
من أجل هذا: فإن الإسلام قرر لها نصيبا من حياة الإنسان؛ ليؤدى حقها فيه.
إن الحياة الروحية كما قررها الإسلام: هى أداء العبادات المختلفة: من الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، والذكر دائما أن الله هو خالقه، وأنه هو رازقه، وهو الذى ينبغى أن يستمد منه العون، ويعتمد عليه؛ لأن الأمر كله بيده، وهو على كل شئ قدير !
إن هذه الحياة مؤقتة؛ ستتحول فى النهاية – إن أحسن الإنسان عمله – إلى حياة أبدية، ملؤها السعادة والهناء !
من هذا نرى أن الإسلام: أمر بالاعتدال فى أمر العبادة؛ وفى ذلك حكمة يدركها من يتدبر فيها.
هذا وللحياة الروحية أثر كبير فى سعادة الإنسان.
ذلك أن الإنسان حين يحيا هذه الحياة: يشعر بالاطمئنان، والراحة، والسعادة؛ فى أعماق قلبه، لأنه يحسن أنه بذلك يرضى الله، وهو بعد ذلك يتطلع إلى حياة أبدية؛ حياة صافية خالية من الأحزان والأكدار أنه يرى أن الموت لا يقضى عليه، ولا يقطع عليه حياته؛ بل ينقله من حياة مؤقتة مكدرة، إلى حياة صافية مستمرة.
وأن الأعمال التى يؤديها هنا: سوف تؤتى ثمارها هناك، وأنه إن لم يستوف حقوقه هنا، فسوف يستوفيها كاملة هناك !
ولذلك فهو لا يجزع من الموت، ولا يحزن على ما فاته من لذائذ هذه الحياة؛ لأنه سوف يرى أحسن منها فى الحياة الأخرى؛ ما دام سائرا فى منهاج الله وطريقه الذى أرتضى لعباده.
هكذا تجعل الحياة الروحية الإنسان سعيدا فى الدنيا، وسعيدا فى الآخرة.
أما الذين أهملوا الروح وتركوها تصدأ، ولم يعطوها حقها من الحياة: فهم فى ضيق وحرج فى هذه الحياة: تذبحهم العصبية، وتقتلهم الانتحارات، وتزعجهم خوف الموت، ويقلقهم ضياع حقوقهم، وعدم استيفائهم ثمار أعمالهم فى الدنيا؛ فالموت آت من ورائهم، ولا أمل لهم فى الحياة بعد الموت؛ لما عرفوا أن مصيرهم اسوأ لسوء سيرتهم، وكثرة جرائمهم !
العقل وحقه فى الحياة الإسلامية:
حقا ليس من قدرة العقل أن يدرك ما وراء هذا الكون، وقد رأينا حيرة الفلاسفة، الذين حاولوا أن يعلموا منه شيئا؛ مع عظم عقولهم، ومع ما بذلوا من مجهودات هى أقصى ما يمكن أن يبذله الإنسان فى هذا الصدد، ومع قصور الإنسان فى هذا العلم: فإنه دائم التساؤل عنه طوال تاريخه الطويل؛ رغم ظهور فلسفة أوجست كونت ومحاربتها للبحث فى هذا المجال، وكأن هناك دافع وراء العقل الإنسانى، يدفعه إلى هذا التساؤل، وهذا البحث، وربما كان ذلك فطرة إلهية، أودعها فيه منذ خلقه، ليعرف الإنسان أن الوجود ليس هو هذه المحسوسات فقط، بل أنه أوسع وأكبر مما ندركه نحن بحواسنا.
ومهما كان من أمر؛ فإن الإسلام أتى فى هذا العلم بما يشفي غليل الإنسان، ويكفيه من التساؤل، ويحفظه من الزلل، والتيه؛ ويريحه من عناء البحث ومشقته فى هذا الميدان.
وهو لم يمنع العقل من أن يجول فى هذا الميدان؛ قبل أن يشرحه له، ويأتى بما فيه من العلم، كما فعلت فلسفة كونت بل كان فعل الإسلام مع العقل فى هذا الميدان؛ فى غاية الحكمة التى لا يدركها إلا العاقل المفكر.
إذن هنا نوع من التحديد لمجال العقل، ولكن ليس فيه حرمان العقل من مطلبه؛ بل إنه يكون عونا للعقل الإنسانى وشفقة ورحمة به.
أما فى مجال الأرض وأجوائها وسمائها؛ فإن الإسلام فتح أمامه صفحات هذا الكون المحسوس؛ لأنها مجال إدراكه وميدان، الذى يمكن أن يجول فيه، ويدور بجوانبه المختلفة. ولم يكتف بفتح هذا المجال؛ بل حثه على البحث فيه، ويدور بجوانبه المختلفة ولم يكتف بفتح هذا المجال؛ بل حثه على البحث فيه، والنظر إلى نظامه؛ ليصل به إلى معرفة الله، ولينتفع منه، ويفرض سيادته عليه.
هذه طائفة من الآيات التى تحث الناس على النظر فى الكون، والبحث فيه عن الحقائق والأسرار الكونية.
هذا وقد وضع الإسلام بعض المبادئ أمام العقل: ليسير عليها، حتى لا يضل فى بحثه عن الحقائق، فى ميدان عمله.
من هذه المبادئ: البحث الحر دون الاعتماد على الآراء المسبقة، والعرف، والعادات السائدة.
اصدق دليل على ذلك، هذه الآية {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين}.
فإن الآية تخاطب الكفار فى أمر الدين، وتقول لهم: فإن الحق لا يتعدد: إما أنكم على حق أو نحن، فتعالوا نبحث بعقل حر؛ لنهتدى الحق؛ والحق أحق أن يتبع.
فأرادت بذلك إزالة التعصب، والتشويق إلى التفكير الحر.
ومن أجل هذا نعى الإسلام على أن الذين يتبعون الخرافات معتمدين على السابقين؛ لا يكون تقليدهم دليلا منطقيا على صحة الأمر؛ ما لم يعتمد على دليل عقلى مقنع: قال تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} ومن هذه المبادئ التثبيت من كل أمر قبل أتباعه والاعتقاد فيه {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.
ومنها أيضا: عدم اتباع الظن.
فالظن أن يكون هناك دليل قاطع على صحة أمر ما، ويكون إلى جانب هذا بعض دليل ظنى؛ يضاد الدليل الأول.
ومنها التفكير المنفرد، بعيدا عن أوهام الجماعة وتمويهاتهم {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد}.
الجسم وحقه فى الحياة:
فى بحثنا السابق: رأينا اعتراف الإسلام بالروح، والعقل، وبحقوقهما؛ والآن سنبحث هنا عن رأيه فى الجسم، ومدى تقريره لحقه فى الحياة !
إننا إذا بحثنا عن هذا فى الإسلام؛ وجدنا أن النصوص المتعلقة بالحياة المادية قسمان: قسم يذمها، والآخر يمدحها.
ولكن ينبغى أن لا نظن أن بها تناقضا؛ كما قد يبدو للنظرة السطحية، وإنما هذا الانقسام الظاهرى: يأتى من نظرته إلى الحياة المادية من زاويتين مختلفتين، ذلك أنه يريد أن يكشف لنا عن منهجه فى الحياة، وفلسفته فيها.
وربما كان انقسام المسلمين فى الاتجاه نحو الحياة: من إقبال عليها، وإدبار عنها نتيجة انقسام هذه النصوص بهذا الشكل حول الحياة المادية.
وإذا شرحنا الزوايتين السابقتين: بدا لنا موقف الإسلام من هذه الحياة بوضوح.
حين نظر إليها الإسلام من هذه الزاوية وبهذا الاعتبار: ذمها، وذم المنهمكين فيها؛ لأنها حياة عارضة زائلة؛ مشتقها أكثر من مسرتها، فهى مليئة بالآلام، والأحزان، واليأس، والخوف،والاضطراب؛ وما هى إلا لعب ولهو، فهى بهذه الصورة، وبهذه النظرة: لا تساوى شيئا، ولا جناح بعوضة: بالنسبة لحياة مقدرة للإنسان بعد موته؛ لهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «لو كانت الدنيا تعادل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء». [ (أنظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي جـ 6 ص 611 للإمام الحافظ أبي العلى محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري مطبعة المدني بالقاهرة) ]
حقا إنها لا تساوى جناح بعوضة حين نقيسها بالحياة الآخروية.
من هذه الزاوية. ذم الإسلام هذه الحياة، وذم الذين يتخذونها غاية لهم، ومجمع همهم، ومبلغ سعيهم. فلا يرجون الآخرة من بعدها. قال تعالى: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك فى ضلال بعيد}.
وكل الآيات والأحاديث التى تذم الحياة وأهلها إنما تذمها بهذا الاعتبار ومن هذه الزاوية.
يريد الإسلام بذلك: أن يبين للناس أنه لا ينبغى أن تتخذ هذه الحياة غاية فى حياتهم، لأنه أمر لا يليق بهم؛ فقد خلقوا لهدف أعلى، وغاية كبرى: هى تلك الحياة الأبدية السعيدة، التى جاء وصفها فى مئات من الآيات والأحاديث، هذه الحياة: هى جديرة بأن يعمل المرء من أجلها، وحقيق أن تتخذ غاية !
والخلاصة: أن أية نظرة تجعل هذه الحياة غاية؛ لهى نظرة سطحية؛ لا تعلو على مستوى الحيوان فى نظر الإسلام !
وأما الزاوية الثانية: فهى أن هذه الحياة ما هى إلا وسيلة لحياة أخرى، ومقدمة لها.
فمن هذه الزاوية وبهذا الاعتبار نرى الإسلام يمدح الحياة ويهتم بها.
أولا: تنظيمها تنظيما اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، وقضائيا.
ثانيا: دعوته الناس إلى أخذ نصيبهم من الحياة؛ من أكل، وشرب، وزواج، وملبس، ومسكن؛ وكل ما يحتاج إليه الإنسان بحكم الغريزة والطبع.
بشرط أن تكون فى نطاق الحدود التى رسمها.
لذا أمرهم الإسلام مقابل ذلك بالعمل {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
فالعمل واجب من أجل أداء حق الله، وحق الإنسانية، وحق الإنسان نفسه: من كسب رزقه، ورزق من تؤول إليه مؤنته فى الحياة.
وعلى كل؛ فعمل المؤمن: كله عبادة؛ ما دام ينظر إلى هذه الحياة من هذه الزاوية؛ وسار على الطريقة التى رسمها الله له.
مصداق ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ما معناه فى شاب قوى جلد: قد بكر يسعى حين قال أحد الجالسين معه: ويحه لو كان شبابه وجلده فى سبيل الله ؟ فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – «لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة، ويغنيها عن الناس: فهو فى سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم: فهو فى سبيل الله».
وهكذا تكون هذه الحياة كلها سبيل الله إلى الجنة: فمن سار فيها كما يأمره الإسلام: فهو سائر فى طريق الجنة؛ التى أعدها الله تعالى للسالكين سبيله؛ فهو داخل فيها فى نهاية المطاق، بالوعد الذى قطعه الله على نفسه !
وبذلك تكون لهذه الحياة أهمية كبرى،فى نظر الإسلام، وتعطى لها قيمة، لا يساويها شئ إلا تلك الحياة الأبدية !
ذلك أنها وإن كانت لا تساوى شيئا فى حد ذاتها، بالنسبة لتلك الحياة: إلا أنها لما كان من الممكن أن تشترى بها الجنة؛ فإن قيمتها تساوى الجنة بهذا الاعتبار !
من هذا: تبين لنا أنه لا تعارض بين هذه النصوص المتعلقة بشئون الحياة الدنيا؛ وأن النظريتين فيها تمثلان فلسفة الإسلام فى الحياة، ومنهاجه فيها.
ومن ثم: تبين لنا أيضا أن الذين نبذوا الحياة الدنيا، ولم يعطوا حق الجسم فيها: نصيبه الطبيعى منها، ورضوا بالكسل والدعة والاتكال على الناس فى الرزق، استدلالا على موقفهم هذا، بالآيات التى تذم الحياة وطلابها، فهؤلاء أخطأوا فى فهم الإسلام، وقصروا نظرهم على زاوية واحدة وغفلوا عن الأخرى.
ومن هنا تدرك أيضا سبب خطأ بعض المستشرقين الذين قالوا: إن الإسلام دين مادى: يدعو أهله إلى المتعة والزينة، ومباهج هذه الحياة المادية.
بعد هذه الإشارة إلى الحياة العقلية والروحية والمادية فى الإسلام: نرى أن الإسلام أدرك أولا طبيعة التكوين الإنسانى، ثم لم ينس حق أى جانب من جوانبه فى الحياة.
ولذا فقد أعطى له هذه الحقوق، وشرع له منهجه فيها؛ معتدلا متوازنا؛ فلم يرد أن يطغى العقل على الروح والجسم ولا الروح على العقل والجسم.
ولا الجسم كذلك؛ كما فعلت الفلسفات الأخرى.
بل إن الإسلام يدعو دائما إلى التوازن فى الحياة:
التوازن بين الحياة الروحية، والحياة العقلية، والحياة المادية.
التوازن بين الإيمان بالغيب، والإيمان بالمحسوس.
التوازن بين طاقات الإنسان ومطالبها.
التوازن بين العمل من أجل الدنيا، والعمل من أجل الآخرة.
قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – «إن لنفسك عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وأعط كل ذى حق حقه».
حقوق الفرد والمجتمع:
وتظهر فلسفة الإسلام: مراعاة التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع، بين المصالح الفردية، والمصالح الاجتماعية، بين الحقوق الفردية، والحقوق الجماعية، بين شخصية الفرد، وشخصية المجتمع.
وقد وضع نظاما معتدلا فى هذه الأمور كلها.
فهو لم يجعل المجتمع: هو الموجود الوحيد المنفرد، وله كيان مستقل فقط، والأفراد ليست لهم أية شخصية تذكر؛ كما اتجهت إلى ذلك بعض النظم.
بل جعل الإسلام للمجتمع: شخصية وكيانا مستقلا. كما جعل للفرد: شخصية ستقلة،فى دائرة خاصة، داخل نطاق المجتمع.
وفقا لهذه النظرة: حدد مصلحة المجتمع، ومصلحة الفرد، فلم يجعل مصلحة الفرد تطغى على مصلحة المجتمع.
وإنما حدد مصلحة الفرد: بحيث لا تضر مصلحة المجتمع.
وكذلك لم يجعل مصلحة المجتمع تطغى على مصلحة الفرد.
فإذا كانت هناك مصلحة للمجتمع، وفيها ضرر على الفرد: فلا بد من تعويض الفرد عن حقه.
ومن هنا نعلم أن الإسلام لم يجعل للفرد مجرد وسيلة لأغراض اجتماعية، أو لتحقيق مصلحة اجتماعية؛ ولو كان فى ذلك تلفا للفرد وهلاكا له.
كما لم يط الإسلام ففرد: حرية مطلقة؛ بحيث يعمل لصالحه فقط؛ دون مراعاة مصلحة الجماعة، إذ أن الأفراد قد يتحولون إلى قراصنة يمتصون دماء الجماعة، ويأخذون مكاسبهم بأية طريقة، وبأى أسلوب.
_______________________________________________________
الكاتب: وحيد الدين خان
المصدر: كتاب “الإسلام منهجا للحياة”
Source link