الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:عنوان الرسالة:
نص الرسالة:
فالذي يظهر من أدلة الكتاب والسنة أن استماع المأموم لقراءة سواء أفضل من قراءته بالنص والإجماع، بل القول بوجوب الإنصات حال قراءة الإمام هو الواجب؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[الأعراف: 204]، وبالاستماع يحصل أجر القراءة ومقصودها؛ فإن المستمع يحصل له بالإنصات أجر القارئ ولم يحتج إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل تشغله عن الاستماع المأمور به؛ وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا”، وقد صحح هذه الزيادة الإمام مسلم في صحيحه.
هذا قول أكثر السلف وقول جمهور الأئمة المتبعين من الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو القول القديم للشافعي وقول محمد بن الحسن.
هذا؛ وقد أفرد هذه المسألة الكبيرة شيخ الإسلام ابن تيمية برسالة ماتعة استقصى فيها أدلة الفريقين وأجاب عن حجج الشافعية القائلة بوجوب القراءة خلف الإمام، كما رد على رسالة الإمام البخاري، فقال رحمه الله كما في “مجموع الفتاوى“(23/ 269-279): “… فالدليل على الأول -يعني أن المصلي في في حال الجهر يستمع، وفي حال المخافتة يقرأ- الكتاب والسنة والاعتبار: أما الأول فإنه تعالى قال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[الأعراف: 204]، وقد استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة، وقال بعضهم في الخطبة، وذكر أحمد بن حنبل الإجماع على أنها نزلت في ذلك -يعني الصلاة- وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر، ثم يقول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[الأعراف: 204]، لفظ عام فإما أن يختص القراءة في الصلاة، أو في القراءة في غير الصلاة، أو يعمهما؟ والثاني باطل قطعًا؛ لأنه لم يقل أحد من المسلمين إنه يجب الاستماع خارج الصلاة ولا يجب في الصلاة؛ ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به ويجب عليه متابعته، أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة داخلة في الآية، إما على سبيل الخصوص وإما على سبيل العموم، وعلى التقديرين فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام وسواء كان أمر إيجاب أو استحباب، فالمقصود حاصل، فإن المراد أن الاستماع أولى من القراءة وهذا صريح في دلالة الآية على كل تقدير، والمنازع يسلم أن الاستماع مأمور به دون القراءة فيما زاد على الفاتحة، والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن، والفاتحة أم القرآن وهي التي لا بد من قراءتها في كل صلاة، والفاتحة أفضل سور القرآن، وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، مع أن قراءتها أكثر وأشهر وهي أفضل من غيرها.
قال: والعادل عن استماعها إلى قراءتها إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع، وهذا غلط يخالف النص والإجماع؛ فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة، والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها؛ فلو كانت القراءة لما يقرأه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة، وهذا لم يقل به أحد.
وإنما نازع من نازع في الفاتحة؛ لظنه أنها واجبة على المأموم مع الجهر أو مستحبة له حينئذ، وجوابه أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها؛ بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة، فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين وهو القراءة؛ فلما دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الاستماع أفضل له من القراءة، علم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ، وهذا المعنى موجود في الفاتحة وغيرها؛ فالمستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة، وحينئذ فلا يجوز أن يؤمر بالأدنى وينهى عن الأعلى، وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة؛ كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة”، وهذا الحديث روي مرسلا ومسندًا، لكن أكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسندًا؛ وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل، فتبين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة؛ لأن هذا من الأمور الظاهرة التي يحتاج إليها جميع الأمة فكان بيانها في القرآن مما يحصل به مقصود البيان، وجاءت السنة موافقة للقرآن؛ ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا؛ فقال: “أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا”، فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به؛ فإن من قرأ على قوم لا يستمعون لقراءته لم يكونوا مؤتمين به؛ وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم؛ فإن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجدًا سجد معه، وإذا أدركه في وتر من صلاته تشهد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفردًا لم يجز، وإنما فعله لأجل الائتمام؛ فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، ويسقط به ما يجب على المنفرد؛ وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها فقال: “هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول ما لي أنازع القرآن”، قال: (فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في الصلوات، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن. قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس يقول: قوله: ” فانتهى الناس ” من كلام الزهري، وروي عن البخاري نحو ذلك.
وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرءون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الزهري من أعلم أهل زمانه أو أعلم أهل زمانه بالسنة، وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة، تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فيكون الزهري من أعلم الناس بها؛ فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها، فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر.
وقد روى مالك في موطئه عن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: “من صلى ركعة لم يقرأ فيها لم يصل إلا وراء الإمام”، وروى أيضًا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل: هل يقرأ خلف الإمام؟ يقول: إذا صلى أحدكم خلف الإمام تجزئه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ، قال: وكان عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام، وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال: “لا قراءة مع الإمام في شيء”، وروى البيهقي عن أبي وائل أن رجلاً سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: “أنصت للقرآن؛ فإن في الصلاة شغلاً، وسيكفيك ذلك الإمام”، وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة وأهل الكوفة من الصحابة، وفي كلامهما تنبيه على أن المانع إنصاتُه لقراءة الإمام.
قال: وأيضًا: ففي إجماع المسلمين على أنه فيما زاد على الفاتحة يؤمر بالاستماع دون القراءة، دليل على أن استماعه لقراءة الإمام خير له من قراءته معه، بل على أنه مأمور بالاستماع دون القراءة مع الإمام. وأيضًا: فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين: إما أن يقرأ مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ، ولم نعلم نزاعًا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة، فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر، بل نقول: لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مستحبة لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم، ولا يستحب للإمام السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم؛ وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نَقل هذا أحد عنه؛ بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح، وفي السنن “أنه كان له سكتتان: سكتة في أول القراءة، وسكتة بعد الفراغ من القراءة”، وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة، وقد روي أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة ولم يقل أحد إنه كان له ثلاث سكتات ولا أربع سكتات، فمن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولاً لم ينقله عن أحد من المسلمين، والسكتة التي عقب قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} من جنس السكتات التي عند رءوس الآي، ومثل هذا لا يسمى سكوتًا؛ ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يقرأ في مثل هذا.
وأيضًا: فلو كان الصحابة كلهم يقرءون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى وإما في الثانية، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرءون الفاتحة، مع أن ذلك لو كان مشروعا لكان الصحابة أحق الناس بعلمه وعمله؛ فعلم أنه بدعة.
وأيضًا: فالمقصود بالجهر استماع المأمومين؛ ولهذا يؤمنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر، فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة، فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته، وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه، ويخطب من لم يستمع لخطبته، وهذا سفه تُنزه عنه الشريعة؛ ولهذا روي في الحديث: “مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا”، فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه.
إلى أن قال مجموع الفتاوى (23/ 290): “وحينئذ يقال: تعارض عموم قوله: “لا صلاة إلا بأم القرآن”، وعموم الأمر بالإنصات، فهؤلاء -القائلون بوجوب القراءة خلف الإمام حال الجهر وهما الشافعي والبخاري وابن حزم -يقولون: ينصت إلا في حال قراءة الفاتحة، وأولئك -القائلون بعدم القراءة خلف الإمام حال الجهر – يقولون: قوله: “لا صلاة إلا بأم القرآن”، يستثنى منه المأمور بالإنصات، إن سلموا شمول اللفظ له؛ فإنهم يقولون ليس في الحديث دلالة على وجوب القراءة على المأموم، فإنه إنما قال: “لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن”، وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالإجماع أن إنصات المأموم لقراءة إمامه يتضمن معنى القراءة معه وزيادة؛ فإن استماعه فيما زاد على الفاتحة أولى به بالقراءة باتفاقهم فلو لم يكن المأموم المستمع لقراءة إمامه أفضل من القارئ لكان قراءته أفضل له؛ ولأنه قد ثبت الأمر بالإنصات لقراءة القرآن ولا يمكنه الجمع بين الإنصات والقراءة؛ ولولا أن الإنصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول.
وأيضًا: فهذا عموم -يقصد عموم وجوب قراءة الفاتحة- قد خص منه المسبوق بحديث أبي بكرة وغيره، وخص منه الصلاة بإمامين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة قرأ من حيث انتهى أبو بكر ولم يستأنف قراءة الفاتحة؛ لأنه بنى على صلاة أبي بكر، فإذا سقطت عنه الفاتحة في هذا الموضع فعن المأموم أولى، وخص منه حال العذر وحال استماع الإمام حال عذر فهو مخصوص، وأمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام لم يخص معه شيء لا بنص خاص ولا إجماع، وإذا تعارض عمومان أحدهما محفوظ والآخر مخصوص وجب تقديم المحفوظ.
وأيضًا: فإن الأمر بالإنصات داخل في معنى اتباع المأموم، وهو دليل على أن المنصت يحصل له بإنصاته واستماعه ما هو أولى به من قراءته؛ وهذا متفق عليه بين المسلمين في الخطبة وفي القراءة في الصلاة في غير محل النزاع، فالمعنى الموجب للإنصات يتناول الإنصات عن الفاتحة وغيرها.
وأما وجوب قراءتها في كل صلاة فإذا أنصت إلى الإمام الذي يقرؤها كان خيرًا مما يقرأ لنفسه؛ وهو لو نذر أن يصلي في المسجد الأقصى لكان صلاته في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم تجزئه؛ بل هو أفضل له كما دلت على ذلك السنة، وهو لم يوجب على نفسه إلا الصلاة في البيت المقدس؛ لكن هذا أفضل منه، فإذا كان هذا في إيجابه على نفسه جعل الشارع الأفضل يقوم مقام المنذور وإلغاء تعيينه هو بالنذر فكيف يوجب الشارع شيئًا ولا يجعل أفضل منه يقوم مقامه؟ والشارع حكيم لا يعين شيئًا قط وغيره أولى بالفعل منه.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي إذا سهى بسجود السهو في غير حديث، ثم المأموم إذا سهى يتحمل إمامه عنه سهوه؛ لأجل متابعته له مع إمكانه أن يسجد بعد سلامه، وإنصاته لقراءته أدخل في المتابعة؛ فإن الإمام إنما يجهر لمن يستمع قراءته”. اهـ. موضع الحجة منه مختصرًا.
إذا تقرر هذا، فإن قراءة الإمام تجزء عن قراءة الماموم، ولا يجوز لمأموم القراءة إذا سمع قراءة الإمام سواء في الفاتحة أو ما زاد عليها،، والله أعلم.
Source link