قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل نافعة ومعان عظيمة نافعة لمن تدبرها وعقلها.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل نافعة ومعان عظيمة نافعة لمن تدبرها وعقلها.
قوله تعالى: {وَتَمَّتْ} الشيء التام هو الذي لا نقص فيه بل كمل من جميع الوجوه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ»[1]، وفي المعنى جاء قوله تعالى: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قوله: {كَلِمَتُ} الكلمة مفرد جمعها كلمات، والمصدر منها الكلام، والقرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الله تعالى، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6].
قوله: {رَبِّكَ} قال أبو جعفر الطبري: وكملت كلمة ربك يعني القرآن، وسماه كلمة كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: هذه كلمة فلان.
قوله: ﴿ {صِدْقًا وَعَدْلًا} صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.
قوله: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}؛ أي: أنها محفوظة لا يستطيع أحد تبديلها ولا أن يأتي بأحسن منها، لا في الأخبار ولا في الأحكام، وتشمل الأحكام جميع الأوامر والنواهي.
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؛ أي: لسائر الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات.
{الْعَلِيمُ}؛ أي: العليم الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والماضي والمستقبل.
في هذه الآيات الكريمات حكم جليلة:
منها: أن الدين الذي جاء في الوحيين دين كامل لا نقص فيه؛ لأن التام هو الذي لا يحتاج إلى غيره، والاقتصار على الوحيين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو العصمة والنجاة لمن تمسك بهما، لا سيما في الأزمات التي تظهر فيها الفتن وتنتشر فيها الأهواء، ويكثر فيها دعاة الضلالة القائمون على أبواب جهنم يقذفون فيها من أجابهم.
ومنها: أن ما يحتاجه الناس من الأخبار السابقة واللاحقة، جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلمصدقًا وحقًّا لا يحتاجون معها إلى غيرها؛ قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: «أمُتَهَوِّكُونَ[2] فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُونَهُ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُونَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»[3].
ومنها: «أن الأحكام جاءت في غاية العدل، لا جور فيها ولا ظلم: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، بل هي نعمة أتمها على عباده ليسعدوا في الدنيا ويفوزوا في الآخرة.
ومنها: أن الوحي كتاب وسنة محفوظ لا سبيل لأحد إلى تحريفه أو تبديله؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ومنها: أن ما جاء في الوحيين من الأحكام وغيرها هو الحق والعدل، وخلافه من القوانين والأنظمة التي يضعها البشر هي الباطل والظلم. قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
ومنها: أن كلام الله كله صدق يصدق بعضه بعضًا، لا تناقض فيه ولا اختلاف؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] صحيح مسلم برقم (2708).
[2] قال أبو عبيده: «أمتحيرون أنتم في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذونه من اليهود والنصارى». غريب الحديث (3 /29).
[3] مسند الإمام أحمد (23 /349) برقم (15156) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (6 /34-36)، برقم (1589).
_________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
Source link