منذ حوالي ساعة
إذا كانت طهارةُ الظاهرِ من البدن لها فضل ومنزلة، فطهارةُ القلبِ أولى بذلك؛ لأنَّ مدارَ الأعمالِ، والثوابَ والعقابَ، والقبولَ والردَّ عليها، فلا تُدخَل الجنةُ دخولاً ابتدئيًّا من غير عقاب، إلا بطهارة القلب…
أمرنا ربنا – عز وجل – بنظافةِ الظاهرِ، وأخذِ الزينةِ في مواطنَ، ومنها عند إرادةِ الصلاةِ، بقوله – تعالى -: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وأمرنا بالطهارة عند إرادةِ الصلاةِ بقوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، ورتَّب على ذلك الفضلَ العظيمَ، ومن ذلك قولُه – صلى الله عليه وسلم -: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن، فغسل وجهَه، خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتْها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه، خرجت كل خطيئة مشتْها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب»؛ (رواه مسلم).
فإذا كانت طهارةُ الظاهرِ من البدن بهذه المنزلةِ والفضلِ، فطهارةُ القلبِ أولى بذلك؛ لأنَّ مدارَ الأعمالِ، والثوابَ والعقابَ، والقبولَ والردَّ عليها، فلا تُدخَل الجنةُ دخولاً ابتدئيًّا من غير عقاب، إلا بطهارة القلب {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
وطهارة القلب ليست بالماء، والثيابِ النظيفةِ كطهارة البدن، إنما بالتخلص من الأوصافِ الذميمةِ، والاتصافِ بالأوصافِ الجميلةِ، ومن ذلك التخلصُ من دغلِ الشرك وغلِّه، فأعمالُ طاهرِ القلبِ كلُّها لله، لا يطلب من المخلوقين مدحًا، ولا تقديرًا وإجلالاً؛ بل هو يستسرُّ في العبادة، يَودُّ لو لم يطلع عليه أحدٌ، ومع ذلك هو خائفٌ وَجِلٌ من أن يكون لأحدٍ نصيبٌ في أعماله، فإذا عَمِل عملاً، سأل نفسه: لماذا هذا العملُ؟ وإن ترك شيئًا، سأل نفسه: لماذا تركتِ هذا العملَ؟ فإنْ أحبَّ أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن مَنع مَنع لله، وإن تقدَّم تقدم لله، وإن تأخر تأخر لله.
فسَلِم من عبودية ما سوى الله، فلا يريد أن يكونَ لغيرِ الله فيه شركٌ بوجه من الوجوه، فقد أخلص عبوديته لله – تعالى.
وهو قد طهَّر قلبَه من تحكيم غير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيه، قد عقد قلبَه على الائتمامِ والاقتداءِ به وحدَه – صلى الله عليه وسلم – دون غيرِه، في الأقوالِ والأعمالِ، من أقوالِ القلبِ، وهي العقائدُ، وأقوالِ اللسان، وهي الخبرُ عما في القلب، وأعمالِ القلب، وهي الإرادةُ، والمحبةُ، والكراهةُ، وتوابعُها، وأعمالِ الجوارحِ، فيكون الحاكمُ عليه في ذلك كلِّهِ هو ما جاء به الرسول – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم – فلا يتقدم بين يديه بعقيدةٍ، ولا قولٍ، ولا عملٍ، كما قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
قد طهَّر قلبَه تجَاه إخوانِه المسلمين، فلا يحسدُهم على نعمةٍ أنعمها اللهُ عليهم؛ بل يفرح بها؛ لأنَّه يعلم أنَّ محبةَ الخير للمسلمين مما افترضه الله عليه، وأنَّه إذا أخلَّ بذلك أخل بالإيمان الواجبِ؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»؛ (رواه البخاري ومسلم).
لا يحتقر إخوانَه المسلمين؛ لعلمه بعظمِ ذلك عند الله – تعالى – لقوله – صلى الله عليه وسلم -: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»؛ (رواه مسلم).
لا يتطرقُ الكِبرُ إلى قلبِه الطاهر؛ لأنَّه يعلمُ قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنةَ مَن كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كبر»؛ (رواه مسلم).
يحمل ما يصدر من إخوانه المسلمين على المحمل الحسن، فهو لا يسيء الظنَّ بهم؛ بل يلتمس العذر لزلاَّتهم وهفواتهم، ممتثلاً أمر ربه – عز وجل – بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، يعلمُ أن ما هو فيه من خيرٍ، وصلاحٍ، واستقامةٍ، من نِعمِ الله عليه {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17].
يبدأ إخوانه بالتحية، ولو كان عند الناس أنَّه أعلى منهم قدرًا؛ لأنَّه يعلم أنَّ هذه التحية سبب لدخول الجنة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»؛ (رواه مسلم).
طلْق المحيَّا، يقابل إخوانه بالابتسامة وطلاقة الوجه؛ تعبُّدًا لله، مستحضرًا قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن مِن المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بِوَجْهٍ طَلْقٍ»؛ (رواه مسلم).
يعلم أنه بحسن خلقه يدرك درجة الصائم القائم.
إذا رأى مَن عليه آثارُ المعاصي تذكَّرَ أنَّ الأعمالَ بالخواتيم، وأنَّ الهدايةَ بيد الله، فخاف على نفسه من سوءِ الخاتمةِ، واستعاذ بالله من الحَورِ بعد الكورِ، وتذكَّرَ نعمةَ اللهِ عليه، فربما كان في وقت من الأوقات أسوأَ حالاً من هذا العاصي {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94].
فعندما طهَّر قلبَه استقام لسانُه، فلا يتكلم إلا بخير، يَزِنُ كلامَه قبل أن يتكلمَ به؛ لأنَّه يعلمُ أن أقوالَه من أعمالِه، متذكرًا قوله – صلى الله عليه وسلم -: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت»؛ (رواه البخاري ومسلم).
عالمًا أنَّ اللسانَ دليلٌ على صلاحِ القلب أو فسادِه؛ لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ، حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه، حتى يستقيمَ لسانُه»؛ (رواه الإمام أحمد بإسناد حسن).
فيا عباد الله:
إذا كان الواحدُ منا يتعاهد نفسَه في الطهارةِ الحدث في اليومِ الواحدِ مراتٍ، ويقفُ أحيانًا مع نفسه يستذكرُ ويسترجعُ: هل هو طاهرٌ من الحدثِ أو لا؟
عباد الله:
إذا أصاب ثوبَ أحدِنا بللٌ، نظر هل هذا البلل طاهر أو لا؟ فإن كان نجسًا سارع في تطهيره؛ لأنَّ الله تعبَّدنا بالطهارة من الخبث.
عباد الله:
طهارة القلب أهمُّ من طهارة الحدث والخبث، فهل اعتنينا بها؟ هل التفتنا إلى قلوبنِا ونظرنا في طهارتها؟ أصلحنا ما بينَنا وبينَ ربِّنا – عز وجل – وما بينَنا وبين عبادِه؟ هل نظرنا في قلوبنِا هل هي طاهرة أو لا؟ هل هي سليمةٌ من إرادة تُعارِض الإخلاصَ، وهوًى يعارض الاتِّباعَ؟ فهذه حقيقةُ طهارة القلب الذي ضُمِنت لصاحبه النجاةُ والسعادةُ.
لنا في خليل الرحمن – عليه الصلاة والسلام – أُسْوةٌ حسنة، حيث أثنى الله – تعالى – عليه بسلامة القلب، بقوله – تعالى -: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84].
عباد الله:
لا يتم للقلب سلامةٌ مطلقةٌ، حتى يسلم من خمسة أشياء: من شركٍ يناقض التوحيدَ، وبدعةٍ تخالفُ السنةَ، وشهوةٍ تخالفُ الأمرَ، وغفلةٍ تناقضُ الذِّكرَ، وهوًى يناقضُ التجريدَ، فصاحب هذا القلب في جنةٍ معجلةٍ في الدنيا قبل الآخرة، ولا تظنوا أنَّ قولَه – تعالى -: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، يختص بيوم المعاد فقط؛ بل هؤلاء في نعيمٍ في دورِهم الثلاثِ: في الدنيا، والبرزخِ، وفي الآخرةِ، وهؤلاء في جحيم في دورِهم الثلاث، وأيُّ لذةٍ ونعيمٍ في الدنيا أطيبُ من بر القلبِ، وسلامةِ الصدرِ، ومعرفةِ الربِّ – تعالى – ومحبتِه، والعملِ على موافقتِه؟
واللهُ – تعالى – جعل الحياةَ الطيبةَ لمن آمن به وعمل صالحًا، كما قال – تعالى -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، فَضَمِن لأهلِ الإيمانِ والعملِ الصالحِ الجزاءَ في الدنيا بالحياة الطيبةِ، والحسنى يومَ القيامةِ، فلهم أطيبُ الحياتين، وهم أحياء في الدارين، فإن طيبَ النفسِ، وسرورَ القلبِ وفرحَه، ولذتَه وطمأنينتَه، وعافيتَه من ترك الشهواتِ المحرمةِ، والشبهاتِ الباطلةِ – هو النعيمُ على الحقيقةِ، ولا نسبةَ لنعيمِ البدنِ إليه، فقد قال بعض مَن ذاق هذه اللذةَ: إنه لتمرُّ بي أوقاتٌ، أقول: إنْ كان أهلُ الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب، وقال الآخر: إن في الدنيا جنةً، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة، من لم يدخلها لم يدخل جنةَ الآخرة.
عباد الله:
من الخطأ الذي يقع فيه البعض منا، إذا نُبِّه على بعض المعاصي، أشار إلى صدره وقال: التقوى ها هنا، ولاشك أنَّ هذا القولَ حق؛ بل هو قولُ مَن لا ينطق عن الهوى – صلى الله عليه وسلم – ومن قال هذا القول هو القائل: «ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صَلَحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»؛ (رواه البخاري ومسلم).
فأشار – صلى الله عليه وسلم – إلى أن صلاحَ حركاتِ العبد بجوارحه، واجتنابَه للمحرماتِ، واتقاءَه للشبهات، بحسب صلاحِ قلبِه، فإذا كان قلبُه سليمًا، صَلَحت حركاتُ الجوارح كلُّها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرماتِ، وتوقي الشبهات، وإن كان القلبُ فاسدًا، قد استولى عليه اتباعُ الهوى، وطلبُ ما يحبه ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارحِ، وانبعثت إلى المعاصي والمشتبهاتِ، بحسب اتباعِ هوى القلب.
_________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
Source link