تتجافى جنوبهم عن المضاجع – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

قيل للحسن البصري: أَعْجَزَنا قيامُ الليل! قال: قيَّدتكم خطاياكم، إنما يؤهِّل الملوكُ للخلوِّ بهم ومخاطبتهم مَن يُخْلص في ودادهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم، فلا يرضونه لذلك.

نعم، هم عباد الله المؤمنون، الذين تأنس قلوبهم بذِكر الله، ويحلو عيشهم بالتِّلاوة والتعبد آناءَ الليل؛ لما فيه من هدوء وسكينة، ونزول الله – عز وجل – إلى سمائه الدنيا؛ ليتوب عن مسيء النهار، ويصفح عنه، وفيه تكثر همسات المحب – وهو العبد المؤمن – لربه – عز وجل – مرددًا أبياتَ الزاهدة رابعة العدوية:
 

فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاةُ مَرِيـــرَةٌ  **  وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ 

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ  **  وَبَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ خَــرَابُ 

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ  **  وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُـرَابُ 

 

نعم، هي نعمة لا يشعر بها إلا مَن تذوقها، ولمس نتائجها، من خلال دعوات تتحقق في السحر، وهو الثلث الأخير من الليل، ولقد كان أبو إسحاق الشيرازي إذا جاءه الليل، يقوم ويناجي ربه ويقول:

 

لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا  **  وَقُمْتُ أَشْكُو إِلَى مَوْلاَيَ مَا أَجِدُ 

وَقُلْتُ يَا عُدَّتِي فِي كُلِّ نَائِبَــــــــــــةٍ  **  وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَعْتَمِـــدُ 

أَشْكُو إِلَيْكَ أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَـــــــــــا  **  مَا لِي عَلَى حَمْلِهَا صَبْرٌ وَلاَ جَلَــدُ 

وَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي بِالذُّلِّ مُعْتَرِفًــــــــا  **  إِلَيْكَ يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ إِلَيْهِ يَــــدُ 

فَلاَ تَرُدَّنَّهَا يَا رَبِّ خَالِيَـــــــــــــــــــةً  **  فَبَحْرُ جُودِكِ يَرْوِي كُلَّ مَنْ يَـــرِدُ 

وكان يردِّد ذلك ويبكي.

ولقد سئل الحسن البصري – رحمه الله تعالى -: لِمَ كان المتهجِّدون أحسنَ الناس وجوهًا؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم نورًا من نوره.

وفي أيامنا هذه نأسف على ملايين المسلمين، مَن يقضون وقتهم يتابعون الفضائيات، يتنقلون بين قناة وأخرى، ولا يقومون لصلاة، أو ذِكر، أو تلاوة للقرآن، وقد حَرَموا أنفسهم من نعمة كبيرة، وهي قيام الليل ومناجاة الباري – عز وجل – وسبب ذلك هو ما بيَّنه لنا الحسن البصري، حيث قيل للحسن البصري: أَعْجَزَنا قيامُ الليل! قال: قيَّدتكم خطاياكم، إنما يؤهِّل الملوكُ للخلوِّ بهم ومخاطبتهم مَن يُخْلص في ودادهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم، فلا يرضونه لذلك.

ولنا هنا أن نذكر قصة مالك بن دينار، حيث يقول مالك:

سهوت ليلة عن قيام الليل ونمت، فإذا أنا بالمنام بجارية كأحسن ما يكون، وفي يدها رقعة – أي: ورقة – فقالت لي: أتحسن أن تقرأ؟ فقلت: نعم، فدفعت إليَّ الرقعة، فإذا فيها:

 

أَأَلْهَتْكَ اللَّذَائِذُ وَالأَمَانِـــــي  **  عَنِ البِيضِ الأَوَانِسِ فِي الجِنَانِ 

تَعِيشُ مُخَلَّدًا لاَ مَوْتَ فِيهَا  **  وَتَلْهُو فِي الجِنَانِ مَعَ الحِسَـــانِ 

تَنَبَّهْ مِنْ مَنَامِكَ إِنَّ خَيْــــرًا  **  مِنَ النَّوْمِ التَّهَجُّدُ بِالقُــــــــــرَانِ 

ولقد رؤي الفضيل بن عياض في المنام، فقيل له: ماذا فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ذنبي، قالوا: بماذا؟ قال: والله لم تنفعنا إلا ركعاتٌ كنا نركعها في جوف الليل، أخلصنا النية فيها لله – عز وجل – فرحمنا الله بها.

ولقد كان الصحابة والتابعون – رضوان الله عليهم جميعًا – يرون في منامهم ما يبيِّن لهم فضلَ قيام الليل، والتهجد فيه.

فيُروى أن أزهر بن مغيث – وكان من القوَّامين – أنه قال: رأيت في المنام امرأة لا تشبه نساء الدنيا، فقلت لها: من أنتِ؟ قالت: حوراء، فقلت: زوجيني نفسك؟ فقالت: اخطبني إلى سيدي وامهرني، فقلت: وما مهركِ؟ فقالت: طول التهجد.

ولعل البعض بوسوسة من الشيطان – أعاذنا الله وإياكم من وسوسته – يتثاقل عن القيام بالليل للصلاة والدعاء، خاصةً أيامَ الشتاء؛ وذلك لبرودة الجو، ولكن سلفنا الصالح كان يأنس بذكر الله والقيام بليالي الشتاء القارص؛ فعن عمر – رضي الله عنه – قال: “الشتاء غنيمة العابدين”؛ (رواه أبو نعيم بإسناد صحيح) .

وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: مرحبًا بالشتاء؛ تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام.

ومن درر كلام الحسن البصري، قال: نِعْمَ زمانُ المؤمن الشتاءُ؛ ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه.

وعن عبيد بن عمير – رحمه الله – أنه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم، فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم، فصوموا.

ومن كلام يحيى بن معاذ: الليل طويل، فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقيٌّ، فلا تدنِّسه بآثامك.

إن نعمة القيام لا ينالها إلا مَن كان يومه في عبادة وتقوى من الله – عز وجل – فهي مكرمة من الله – عز وجل – للعبد المؤمن في آخر يومه، في أن يزيد في جني الحسنات ويضاعفها في ليل يسجد فيه، ويبكي من خشية الله.

نسأل الله – تعالى – أن يحشرنا والمسلمين مع سلفنا الصالح، وقائد الجمع نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – ويجعلنا ممن تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يسعون لعبادة التهجد والقيام، ولا يمنعهم من ذلك حَرٌّ ولا برد.

___________________________________________________
الكاتب: سارة عبدالله


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء من خاف ظلم السلطان

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّـمَواتِ السَّبْعِ، ورَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، كُنْ لِي جَاراً مِنْ فُلاَنِ بْنِ فُلانٍ، وأحْزَابِهِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *