إلى كل مؤمن صادق مع ربه: «ألم نشرح لك صدرك»

أيها المؤمن: كأن الله يقول لك أنت: ألم نشرح صدرك لهذا الإسلام؟ ونيسر لك أمره؟ ونجعله حبيبًا إلى قلبك؟ ونوضح لك طريقه حتى ترى نهايته السعيدة؟

لقد خلق الله الإنسان خليفة في الأرض؛ إذ قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].

 

وحدد مهمته فيها إذ قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وهذا أسلوب حصرٍ وقصر، أي: ليس له مهمة في حياته إلا العبادة، ويؤكد هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

 

أي: إن الله قد أوكل للإنسان قيادة الحياة في الأرض (جماد، نبات، حيوان، نفسه، غيره) قيادةً بمنهج الله الذي حدده في كتابه وأرسل الرسول ليطبقه في الحياة تطبيقًا عمليًّا، ونيته في كل ذلك طاعةُ الله وطلبُ رضاه، ليفوز بالجنة في الحياة الآخرة.

 

وهنا ننوه إلى مفهوم خبيث تم غرسه من أصحاب هوى الأنفس والشياطين باعتبار العبادة محصورةً في (الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج)، وذلك لفصل الدين عن الحياة، وجعل الدين شكلًا لا جوهر له، ولتكون القيادة في الحياة لشياطين الإنس وحدهم دون غيرهم.

 

أمَّا مراد الله فهو واضح، فالحياة كلُّها عبادة لله تسير على منهج الله ولله.

 

فحياة الإنسان كما خلقها الله وأراد هي منظومة اختبارات أو فتن أو مواقف يحياها الإنسان بمشيئة الله وعلي الإنسان أن يتصرف في هذه المواقف أو الاختبارات أو الفتن هذه بمنهج الله الذي أنزله في كتابه الكريم “القرآن” وكما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا كله، مع الرضا بكل هذا تسليمًا وطاعة لله وحبًّا في ذلك، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً} ا ﴾ [النساء: 125].

 

وهذا يتطلب من الإنسان أن يشق طريقه في هذه الحياة التي خطها الله بمشيئته، وفيها كل المعاناة والشقاء، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].

 

فلقد خلق الله الإِنسان لهذه الشدائد والآلام، التي هي من طبيعة هذه الحياة الدنيا، والتي لا يزال يكابدها وينوء بها، ويتفاعل معها… حتى تنتهي حياتُه.

 

فالكلُّ يجاهد ويكابد ويتعب، من أجل بلوغ الغاية التي يبتغيها، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6].

 

إن الكبد طبيعة الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبد في النهاية.

 

{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}؛ إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحًا، تحمل عبأك، وتجهد جهدك، وتشق طريقك… لتصل في النهاية إلى ربك، بعد الكد والكدح والجهاد.

 

يا أيها الإنسان… إنك كادح حتى في متاعك… فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد، إن لم يكن جهد بدنٍ وكد عملٍ، فهو جهد تفكير وكد مشاعر.. الواجد والمحروم سواء، إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان.. ثم في النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء.

 

يا أيها الإنسان… إنك لا تجد الراحة في الأرض أبدًا، إنما الراحة هناك، لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام.. والتعب واحد في الأرض والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه.

 

وإنك بعد هذا الكدح والعناء… مصيرك في النهاية إلى لقاء ربك، حيث يحاسبك على عملك وكدحك.. فقدم في دنياك الكدح المشروع، والعمل الصالح.

 

على أن في الأرض ذاتها بعضَ الجزاء على ألوان الكدح والعناء. إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير؛ ليس مثله طمأنينة بالٍ وارتياحًا للبذل، واسترواحًا بالتضحية، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين، أو للانطلاق من هذه الأثقال، ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة.. ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه.

 

فمن رحمة الله بالعبد المؤمن أن يخففَ عنه مشاعر هذا الكدح بتزويده بالطاقة التي تدفعه إلى الاستمرار في الكدح مع الشعور باللذة في ذلك، اقرأ سورة الشرح: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 1 – 8].

 

رغم أن الخطاب في هذه السورة موجه للنبي صلى الله عليه وسلم كأفضل مؤمنٍ طبق منهج الله على الأرض بتوجيه الله، فإن هذه السورة بكليتها أيضا موجهةٌ إلى كل مؤمن صادق مع ربه واتبع في تطبيقه سير رسول الله لهذا المنهج.

 

ففيها ظل العطف الرباني الندي لكل مؤمن، وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق.

 

أيها المؤمن: كأن الله يقول لك أنت: ألم نشرح صدرك لهذا الإسلام؟ ونيسر لك أمره؟ ونجعله حبيبًا إلى قلبك؟ ونوضح لك طريقه حتى ترى نهايته السعيدة؟

 

فتش في صدرك.. ألا تجد فيه الروح والانشراح والإشراق والنور؟ واستعد في حسك مذاق هذا العطاء، هل تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب، واليسر مع كل عسر، والرضى مع كل حرمان؟

 

أيها المسلم إن لم تشعر بكل هذا في كل أحاسيسك وروحك وبدنك، فأنت تحتاج إلى تصحيح المسار على منهج الله وبذل مزيد من الجهد والإخلاص حتى تصل بإذن الله.

 

والله ولي التوفيق.

__________________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء من خاف ظلم السلطان

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّـمَواتِ السَّبْعِ، ورَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، كُنْ لِي جَاراً مِنْ فُلاَنِ بْنِ فُلانٍ، وأحْزَابِهِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *