وأصلحوا ذات بينكم – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

للشيطان مداخلَ لإفساد ذات البَيْن؛ حيث يوسع رقعة الاختلاف، حتى يكون شقاقًا ونزاعًا، وينفخ في الآراء، حتى لا يرى أصحابُها الصوابَ إلا فيها، ومن ثَم تتكوَّن المشكلات بين الناس، وتنشأ في دنياهم قضايا ورزايا، من قتلٍ وإزهاقِ أرواحٍ، وتعدٍّ على الأموال، وهتكٍ للأعراض.

أما بعدُ:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

أيها المسلمون:

جُبلت النفوس على الاختلاف، وتعدُّد وجهات النظر، ومن طبيعة البشر أن يتمسك كلٌّ برأيه ويتعصب له، إلا أن للشيطان في ذلك مداخلَ لإفساد ذات البَيْن؛ حيث يوسع رقعة الاختلاف، حتى يكون شقاقًا ونزاعًا، وينفخ في الآراء، حتى لا يرى أصحابُها الصوابَ إلا فيها، ومن ثَم تتكوَّن المشكلات بين الناس، وتنشأ في دنياهم قضايا ورزايا، من قتلٍ وإزهاقِ أرواحٍ، وتعدٍّ على الأموال، وهتكٍ للأعراض.

وقد تتجاوز الخلافات الأفراد لتبلغ الأُسَر، وقد تزيد فتصل إلى القبائل، ومن ثَمَّ يجيء الإصلاح بردًا يطفئ لهيبَ الخلاف، وعلاجًا تسكن به حرارةُ النزاع، وسلامًا تدفن به العداوات، فتجتمع القلوب، وتأتلف الأفئدة، وتسكن النفوس، وتزول الوحشة، ويذهب غليان الغضب، وتخمد فورة التعصُّب، ويدخل الرضا على المتخاصمين، ويعود الوئام إلى المتنازعين.

ولقد جاء في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم منَ الترغيب في الإصلاح والحث عليه، ما بمثله تقوى العزائمُ على فِعْل الخير، وتتشوف النفوس لبذل المعروف؛ قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وقال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وقال – جل وعلا -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، وقال عز شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل سُلامى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقةٌ، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميط الأذى عن الطريق صدقةٌ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين»، وعن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارةٍ» ؟، قال: بلى، قال: «صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا».

ولقد بلغ من محبة الإسلام للصلح أنْ أجاز من أجله الكذبَ والتوسُّع في الكلام؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا»، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يَصلُح الكذب إلا في ثلاثٍ: يحدث الرجل امرأته ليرضيَها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلحَ بين الناس».

وقد حرَص إمامُ الأمة، وقائدها، وقدوتها عليه الصلاة والسلام على الصُّلح، وسعى فيه، وباشره بنفسه؛ فعن كعب بن مالكٍ أنه تقاضى ابن أبي حدردٍ دَينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعتْ أصواتُهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتٍ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعبَ بن مالكٍ، فقال: «يا كعب»، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر، فقال كعبٌ: قد فعلتُ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُم فاقضِه».

وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه أن أهل قباءٍ اقتتلوا حتى ترامَوا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم»، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوفٍ كان بينهم شرٌّ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناسٍ معه…” الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم تأخَّر مِن أجل ذلك عن صلاة الجماعة، على أهميتها وعظم مكانتها.

أيها المسلمون:

الإصلاحُ بين الناس مهمةٌ عظيمةٌ، وعملٌ جليلٌ، لا يقوى عليه إلا الرجالُ الأخيار، ولا يتحمله إلا الأسيادُ الأبرار، ممن شرُفتْ أقدارُهم، وكرمت أخلاقُهم، وطابت معادنُهم، وزكَت نفوسُهم، وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الحسنَ بن علي رضي الله عنهما فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقبِل على الناس مرةً وعليه أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين منَ المسلمين»، وقد كان من أمره رضي الله عنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حيث قدَّم مصالح المسلمين العامة على منفعةٍ خاصةٍ، وآثر الباقية على الفانية، وتَرَك الرئاسة، وزهد في الزعامة، وتنازَلَ عن الخلافة لمعاوية – رضي الله عنهم أجمعين – حقنًا لدماء المسلمين، وإصلاحًا لشأنهم، وإيثارًا لمصلحة اجتماعهم، وائتلاف قلوبهم.

أيها المسلمون:

وحين يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار، ليبذلوا من أوقاتهم، ويغرموا من أموالهم، ويصرفوا جاههم، ويريقوا ماء وجوههم، فقد قدَّر الإسلام لهم مروءتهم، وحفظ معروفهم، ولم ينسَ لهم حُسناهم ولا جميلهم، فجعل لهم في الزكاة نصيبًا؛ لئلا يجحف بهم إصلاحهم وبذلهم، قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

وعن قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال: تحملتُ حمالةً، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها»، ثم قال: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثةٍ: رجلٌ تحمل حمالةً، فحلَّت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك…» الحديث.

 

أيها المسلمون:

ذلكم شيءٌ من فضل الصلح، وتلكم جوانبُ مما ورد في الحث عليه، واهتمام الإسلام به، وتكريم أهله، فأي نفسٍ بعد ذلك تأباه وتعرض عنه؟ أي نفسٍ ترفضه ولا تسعى فيه؟ إنه لا يزهد فيه إلا أناسٌ قستْ قلوبُهم، وفسَدتْ بواطنهم، أناسٌ ساءت مقاصدهم، وخبثت نيَّاتهم، حتى لكأنهم لا يُحبُّون إلا الشر، ولا يعيشون إلا عليه، ولا يسعون إلا في الفساد، ولا يهشون إلا له، ولا يجنحون إلا إلى الظلم والبغي والعدوان.

إنه حين يُدعى أحدٌ إلى الصلح فلا يَقبَله، فإن ذلك نوعٌ من القسوة في قلبه، وأمارةٌ على تعاليه على الحق ورغبته عنه، وهو ما لا يحتمله مؤمنٌ، ولا يستمر عليه ذو تقوى؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصومٍ بالباب، عالية أصواتُهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيءٍ، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين المتألِّي على الله لا يفعل المعروف» ؟، فقال: أنا يا رسول الله، فله أيُّ ذلك أَحَبَّ”.

والأشد من ذلك والأنكى أيها المسلمون أن ترى فئاتٍ من الناس وقعتْ من سوء الأخلاق في الحضيض، ورضيت بأن تكونَ من طبقات المجتمع في السفل، فلم يكتفوا بالسكوت والسكون والإعراض، فجعلوا من أنفسهم مصدرًا للشرور، ومنبتًا للعداوات، واتخذوها مطايا لنقل الكلام، وحمل أسباب الخصام، وسمحوا في مجالسهم بترديد الشائعات، وتلفيق الأكاذيب، يلهبون نار الشحناء، ويوقدون سعير البغضاء، كلما خبت نار الفتن أوقدوها وأشعلوها، فلا غرو بعد ذلك أن تضيع الحقوق، وتهدر الحرمات، ولا عجب أن يرق الدين، وتنزع البركات، تفسد بيوتٌ، وتتفكك أسرٌ، وتطول عداواتٌ، وتستمر ثاراتٌ، وكم من دماءٍ تسفك، وثرواتٍ تبدد، ونفوسٍ تشحن، وصدورٍ تضيق! وقد كان بالإمكان حل تلك القضايا، والقضاء على تلك الأمراض، لو أن المسلمين احتسبوا الأجر والثواب، وسارعوا إلى الإصلاح ولم يتباطؤوا فيه.

ألا فاتقوا الله أيها المسلمون وأصلحوا، {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}  [الشعراء: 151، 152].

أيُّها المسلمون:

في مجتمعنا – كما في غيره – مشكلاتٌ، وهنا وهناك مصلحون، ولدى الناس للصُّلح وسائلُ وأساليبُ، وتراهم يسلكون من أجله كثيرًا منَ الطُّرُق، غير أن هذا العمل الصالح الجليل، الذي كان من تمام الديانة ورجاحة العقل أن يبادر به وتسهل أموره، اتَّخذ لدى كثيرٍ من الناس مسالكَ أخرى، فيها من التعقيد والتأخير الشيء الكثير، وقُصدت به مصالح ذاتيةٌ دنيئةٌ، خارجةٌ عن أهدافه النبيلة، ومقاصده السامية، فجُعل وسيلةً للفخر، وإعزاز النفس، وإبداء الرفعة، وإهانة الطرف المقابل، وإرغامه وإذلاله، وتكليفه ما لا يطيق، والإثقال عليه بما لا يحتمل، والسلوك به في مسالك وعرةٍ ملتويةٍ، وإدخاله سراديبَ مُظلمةً منتنةً، تفرضها عادات قبليةٌ جاهليةٌ، وتشجع عليها رسومٌ وقوانينُ شيطانيةٌ، وينفخ فيها كبراءُ متكبرون متعالون، لا يرون الصلح إلا فرصةً لإبراز أنفسهم على أنهم أهل الحل والعقد، ولا يريدون به إلا الظهورَ أمام الناس بمظهر الآمر الناهي، وما تلك الخيام التي تنصب، والسرادقات التي تُقام، والأضواء التي تشعل، والنعم التي تُذبح، والبطر والأشر والإسراف، والمغالاة في طلب الدية، حيث تبلغ ملايين الريالات، وقد تلحق بها أشياء عينيةٌ من أسلحةٍ وسياراتٍ، ثم إلزام أولياء القاتل بالحُضُور بطريقةٍ فيها منَ الإهانة ما فيها.

أقول: ما كل ذلك إلا لتحميل أولياء القاتل العَنَت، وإلزامهم المشقَّة، وكل هذا خلاف المقاصد الحَسَنة للصلح في الإسلام؛ إذ إن المبالَغة في عوض العفو عن القصاص، وجعل الصُّلح بطريقةٍ فيها إرغامٌ وإهانةٌ وإذلالٌ، ما هو إلا إمعانٌ في تكريس العداوة وإبقائها، وقطعٌ للمعروف بين الناس؛ إذ لا قيمة لعفوٍ ينجو به الجاني من القصاص، وتهلك بسببه أسرتُه وقبيلته بإراقة ماء الوجه على أبواب المحسنين؛ لأجل توفير ما اشترطه أهلُ القتيل من عِوضٍ مبالَغٍ فيه.

ولقد أحسنت الدولة – وفَّقها الله – صنعًا؛ إذ جعلتْ ضوابطَ للصلح، يُقطع بها دابر الجَشَع والطمَع، وتُحترم بها الأحكام الشرعية، وتوقف ما كثر في الآونة الأخيرة من متاجرةٍ بالأنفس.

فما أحرى المسلمين أن يلتزموا ما حدده الله ورسوله من ديةٍ معلومةٍ! وما أجمل أن يرفقوا بإخوانهم ويرحموهم! وما أجدرهم أن يعفوا ويصفحوا؛ ابتغاء وجه الله، وطلبًا لما عنده من الأجر، لا طلبًا للفخر والرياء والسمعة! وإنه متى التزم المسلمون بتخفيف ما يطلبونه مقابل العفو عمن استوجب القصاص، فستسهل إجراءات العفو؛ إذ يخف الحمل عن كاهل محبي الخير منَ الأغنياء، الذين يدفعون هذه الأموال منَ الصدقات والزكوات، فيبادرون إليها ولا يتأخرون.

أيها المسلمون:

إنَّ الإصلاح عزيمةٌ راشدةٌ، ونيةٌ خيرةٌ، وإرادةٌ مصلحةٌ، وابتغاءُ ثوابٍ، وحقنُ دمٍ، وقطعُ عداواتٍ، يقوم به لبيبٌ عاقلٌ متزنٌ، مخلصٌ لله، طالبٌ ما عنده من الأجر، يسرُّه أن يسود الوئامُ بين الناس، لا تدفعه أهواءٌ شخصيةٌ، ولا يرتقب منافعَ دنيويةً، لا يقصد بإصلاحه الترؤس والرياء، وارتفاع الذكر والاستعلاء، وإنما همه مرضاة الله وإصلاح ذات البين، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

ألا فاتقوا الله أيها المسلمون واحرصوا على الصلح بين المتخاصمين، واحذروا كلَّ ما خالف الشرعَ المطهَّر من العادات، فقد جاء في الحديث مرفوعًا: «الصلح جائزٌ بين المسلمين؛ إلاَّ صُلحًا حرَّم حلالاً، أو أَحَلَّ حرامًا».

__________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله بن محمد البصري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء من خاف ظلم السلطان

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّـمَواتِ السَّبْعِ، ورَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، كُنْ لِي جَاراً مِنْ فُلاَنِ بْنِ فُلانٍ، وأحْزَابِهِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *