مما يعين على قيام الليل تذكُّرُ ذاك القيام الطويل: يوم يقوم الناس لربِّ العالمين، يوم يُبعثَر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 – 4].
هكذا قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد امتثَلَ الحبيب أمر ربِّه، فقام وأطال القيام، وبكى وأطال في البكاء، وخشع وأطال في الخشوع، وسجد وأطال السجود، تقول عائشة رضي الله عنها عن حبِّه صلى الله عليه وسلم لقيام الليل: “إنه كان يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة، ويسجد السجدة قدر قراءة خمسين آية”، وصح عنه أنه قال في فضلها: «أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبةِ الصلاةُ في جوف الليل» [1].
ويقول الله عز وجل لرسوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء: 79]، مثل قيامك في ليالي الدنيا يكون قيامك المحمود يوم القيامة.
رمضان شهر الصيام والقيام.. أحلى الليالي وأغلى الساعات يوم يقوم الصائم في جنح الظلام بين يدَي الملِك العلام:
قلـتُ لليل: هـل بجـوفـك سـرٌّ *** عـامـرٌ بــالحديـثِ والأســـرارِ؟
قال: لم أَلْقَ في حياتي حديثًا *** كحديث الأحباب في الأسحارِ
ليل الصائمين قصير؛ لأنه لذيذ، وليل العابثين طويل؛ لأنه سقيم.. وصف الله ليل الصالحين من عباده فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، ووصفهم في السحر فقال: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، وقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].
حتى قال أبو سليمان الداراني عن الليل، الذي كان ينتظره بشوق: “أهلُ الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببتُ البقاء في الدنيا”.
بل كان بعضهم يقسِّم الليل أرباعًا، يقوم هو ربعَه الأول، وزوجتُه ربعَه الثاني، وخادمُه الثالثَ، وأمُّه الربعَ الأخير، ولما مات أحدهم، وزع الليل ثلاثًا، وهكذا حتى مات الثلاثة، فأحيا الليل كلَّه.
قال ابن القيم في وصفه لهم:
يُحــيُونَ ليلَهـمُ بـطـاعــة ربِّـهـــم *** بتـلاوةٍ وتـضـرُّع وســـؤالِ
وعيونُهم تجري بفيضِ دموعِهـم *** مثل انهمال الوابل الهطَّـالِ
في الليل رُهبانٌ وعند جهادِهــم *** لعدوِّهم مِن أشجعِ الأبطالِ
بوجوهِهم أثرُ السجود لــربِّهـــم *** وبـها أشعـةُ نـورِه المتـلالِي
ويقول الفُضيل بن عياض: (بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاء الليل يمحو ذنوب السرِّ).
وما أجمل أن يلحق أهلُ البيت بمدرسة الليل؛ لأن البيت الذي يتربَّى ويتخرج في مدرسة الليل يؤثِّر في الأجيال، ويُخرِج الأبطال، مثل نور الدين محمود وصلاح الدين، الذي كان يتفقَّد رجاله بالليل، فإنْ وجدهم يقومون الليل يقول: “من هنا يأتي النصر”، وإن وجدهم نائمين قال: “من هنا يتأخَّر النصر”، وصدق القائل: “دقائق الليل غالية، فلا تُرخِصوها بالغفلة”.
فإذا كانت دقائق الليل غالية، فهي في ليل رمضان أغلى، فلا أقل من أن تحافظ على صلاة التراويح مع الإمام؛ فقد جاء في الحديث: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة»، فإياك أن تنشغل في أيام الخير والفضل، قدوتُك في ذلك رسولُ الله والصحابة والسلف الصالح.
كانت بيوت المهاجرين والأنصار إذا أظلَمَ عليهم الليل سُمِع لهم نشيجٌ بالبكاء، وإذا أسفر الصباح فإذا هم الأُسُودُ إقدامًا وشجاعة:
في الليل رهبانٌ وعند لقائهم *** لعدوِّهم مِن أشجعِ الشُّجعانِ
كانت بيوت السلف في ظلام الليل مدارسَ تلاوة، وجامعات تربية، ومعاهدَ إيمان، وبيوتُنا اليوم – إلا من رحم الله – أصبحت تَعِجُّ باللهو والسهر وسماع الغناء والمسلسلات والأفلام والفوازير، فاللهم عفوَك يا كريم!
ولما فقدنا قيام الليل قسَتْ قلوبنا، وجفَّت دموعنا، وضعُف إيماننا، وذهب شرفنا، وأظلَمت وجوهُنا.
قال الحسن البصري رحمه الله: لم أجد من العبادة شيئًا أشد من الصلاة في جوف الليل، فقيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: لأنهم خلَوا بالرحمن، فألبسهم من نوره.
ومما يعين على قيام الليل الخوفُ من الله، وفي الحديث: «من خاف أدلَجَ، ومن أدلج بلغ المنزل…»؛ ولهذا يقول طاوس رحمه الله: إنَّ ذِكرَ جهنم طيَّر نوم العابدين.
وقال أحد العابدين: إذا ذكَرتُ النار اشتدَّ خوفي، وإذا ذكَرتُ الجنة اشتدَّ شوقي، فلا أقدر أن أنام.
وهذا ذو النون المصري يقول:
منَعَ القرَانُ بوعدِه ووعيدِه *** مُقَلَ العيونِ بليلها أن تَهجَعَا
ومما يعين على قيام الليل تذكُّرُ ذاك القيام الطويل: يوم يقوم الناس لربِّ العالمين، يوم يُبعثَر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور.
ومما يعين على قيام الليل تذكُّرُ ظُلمةِ القبر ووحشته.. وصية النبي لأبي ذر: ((وصلِّ ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور)).
ومما يعين على قيام الليل تذكُّرُ الأجر والمثوبة ومضاعفة الحسنات، قال صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تَقدَّمَ من ذنبه».
ومما يعين على قيام الليل اجتنابُ الذنوب والمعاصي، يقول سفيان الثوري رحمه الله: “حُرِمتُ قيام الليل خمسة أشهر من ذنبٍ أذنَبتُه”.
ومما يعين على قيام الليل قلةُ الطعام والشراب؛ “فإذا امتلأت المعدة خَرِسَتِ الحكمةُ، ونامت الفكرة، وقعَدَت الأعضاء عن العبادة”.
ومما يعين أيضًا ألا تُفرِّط في وردك القرآني؛ فالقرآن ينير القلب، ويشرح الصدر، ويعينك على الدرب.. لما فعل السلف ذلك تفنَّنوا في قيام الليل، فمنهم من أمضى الليل راكعًا، ومنهم من قطَعَه ساجدًا، ومنهم من أذهبه قائمًا، واليوم أضعنا الدقائق الغالية بالغفلة.. ننشط أحيانًا في أول رمضان، ونتثاقل إذا انتصف، وربما انفض عن القيام؛ لأنه ما ذاق طعم الإيمان، ولا حلاوة القرآن، ولكن كيف ينام من يتذكر رقدة القبور، والحشر يوم النشور، وقاصمة الظهور؟! ما كنا نظن أن جيلًا من المسلمين يسهر إلى الفجر على المقاهي يلعب، وفي الخيام الرمضانية يدخن ويلهو.
أخي الحبيب: جدِّد النية، واعقد العزم، وتدبَّر كلام المعصوم لابن عمر: ((نِعْمَ الرجُلُ عبدُالله لو كان يقوم من الليل)).
______________________________________________
[1] رواه مسلم (2709)._______________________________
المؤلف: عصام محمد فهيم جمعة
Source link