أمتي أمة القيم – طريق الإسلام

أمتي أمة القيم

نعم سوف أظل عربيًّا، وليس ذلك مرده إيمان أعمى بانتماء فُرِضَ عليَّ بحكم الميلاد، بل إنه نتيجة قناعة متعددة الأبعاد، هي الخلاصة النهائية لمتابعة تاريخ الإنسانية، ذلك التاريخ الذي ننتمي إليه، إنه النتيجة التي لابد أن يصل إليها كل مَن يستقرئ الأحداث التي ارْتَبَطَ بِها الوجود الإنساني، فتكون من حصيلتها التراث الحضاري، الذي يتمركز في وسطه ذلك التُّراث الذي قدمه آبائي، وهو النتيجة المنطقيَّة لذلك الاختيار الذي فرضَتْهُ العناية الإلهية على أرض آبائي وأجدادي في مواجهة تلك الإنسانيَّة وذلك الوجود الإنساني.
 

هل تريد يا بُنَيَّ أن تعي معي قِصَّة التاريخ؟ يرويها لك أحدُ الثقات، وقد تجردت نظرته، أي من محور واحد: الصدق والأمانة مع الذات.

إذن فاستمع معي إلى صوت الماضي!!
 

وجدت أُمَّتِي منذ بداية الإنسانيَّة في تلك البقعة التي تتقابل فيها القارات الثلاث، أي في قلب العالم، ولم يكن من قبيل الصُّدَف أن يخرج من هذه البقعة صوت الدعوة إلى الهداية، الدين هو صوت الحق، وهو وحده الذي يرفع الإنسان من مرتبة الوحشية إلى قدسية الملائكة، وهكذا في أرض الصحراء، تحدد مصير الإنسانية، ومن هذه الصحراء القاحلة التي لا يعرف أن يعايشها سوى البدوي كانت الدعوات المتتالية، فخرج صوت الإيمان والتضحية قويًّا بنقائه، ثابتًّا بوضوحه، عميقًا ببساطته.
 

هذه الإنسانيَّة الجديدة، وهذه الأرض التي أنتمي إليها، هي أرض الأديان، وهي أيضًا أرض العروبة، إنها ليست فقط أرض الإسلام، بل منها منبت ديانة التوراة وإليها تعود ديانة المحبة، أي الديانة المسيحية، إن المسيحية ديانة عربية.

لذلك، سوف أظل عربيًّا.
 

وإذا كان العربي قد نسي قدسية تعاليم أجداده، وقعد عن حمل رسالتهم التي حملتها لهم السماء، فإن ذلك ليس خطيئة فرد واحد، وإنما هي خطيئة أمة بأكملها غالطت نفسها ونسيت حقيقتها، وسارت في طريق يبعد عن ذاتها الحقيقية، فالإنسان مجموعة من الأخطاء، والخطأ وسيلة التعليم والارتقاء.
 

ونحن العرب ارتكبنا من الأخطاء الكثير، وهذا حاضرنا، أليس هو سلسلة متتالية من المآسي التي ليس مردها – في جانب كبير منها – سوى الوقوع في الخطأ والإصرار عليه؟

ولكن ككل حضارةٍ خلاَّقة قادت وسَعَتْ إلى رفع راية العقل البشري، فكذلك كان لابد وأن تتعثَّر حضارتُنا العربيَّة لتقع وتسقط في أكثرَ من مناسبة واحدة، وكان لابدَّ وأن تتعلَّم لتستعيدَ سيرتَها، ولتندفِعَ رافعةً راية الحق، مدعمة قصَّة الوجود الإنساني.
 

لا يستطيع أيُّ باحثٍ أن يَفْهَمَ حقيقةَ الوظيفة التاريخيَّة، التي عهدت بها العناية الإلهية لأمتنا العربية، إلا إذا ألقى نظرة كلية شاملة على حقيقة التطور العام، الذي صبغ الإنسانية وموضع تلك الأمة من ذلك التطور، لو تركنا جانبًا الجزئيات والتفاصيل لاستطعنا أن نؤكد كيف أن قصة الإنسان في سعيه نحو الخلود تمركزت ونبعت من قوى ثلاث: الصين في أقصى الشرق، والإنسان الأوروبي في أقصى الغرب، وقد توسطتها الحضارة العربية على قوس ممتد ومتصل من البحر الأصفر على مشارف المحيط الهندي إلى أرض الغال في أقصى الشمال الغربي، وبينهما البحر الصحراوي حيث تسود قوة البداوة وصلابة الاتصال المباشر بالطبيعية في أسمى صورها.

تمركزت جميع عناصر التقدم للوجود الإنساني، والتطور الحضاري نحو الكمال والارتقاء جميع القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عرفتها الإنسانية، لم تكن سوى مراكز ثلاثة تبلورت حولها نماذج ثلاثة مختلفة ومتباينة للفرد وللحضارة وللقيم المثالية، المجتمع الصيني أولاً حيث الكيان السياسي يمثل الأمة القومية المنغلقة على نفسها التي تأبى إلا الارتفاع بالاكتفاء الذاتي، وحيث استطاعت الأمة الصينية – وعلى متسع زمني يصل إلى أكثر من أربعين قرنًا – أن تظل متماسكة؛ لأنها لم تنشأ وتتطور استنادًا إلى حق الفتح، ولكنها نبعت من مفهوم الرقي والسمو الحضاري والأخلاقي في مواجهة تلك الأمة الصينية وعلى الطرف الآخر من القوس الممتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، نجد المجتمع الأوروبي، جماعة تحدثت دائمًا عن وحدتها، ومع ذلك لم تستطع في أي مرحلة من مراحل تاريخها عقب الدولة الرومانية أن تحقق تلك الوحدة السياسية.

وِحْدَتُها الحقيقية كانت في مواجهة أعدائها، وفي فلسفة تعاملها مع المجتمعات الأخرى المحيطة بها، حيثُ سادَتْها مبادئ ثلاثة: القوة والبطش من جانب، والخديعة والكذب من جانب آخر، ثم الاستعلاء والتعصب من جانب ثالث، حتى عندما غزتها الدعوة الدينية السماوية التي جاءت من أرضنا – أرض الأديان – من الصحاري العربية عبر البحر المتوسط، لم تستطع أن ترفع من مستوى أخلاقيَّاتها، بل لقد أعادت صياغة تلك الأديان على ضوء أنانيتها الحركية وتعصُّبها العنصري، بل إنَّها لم تتردَّد في فترات معيَّنة أن تلفظ تراثها الديني وتعلن الرفض المطلق، والطرد الكلي الكامل لمنزلة الإله من الوجود، والتَّعامُل المَدَنِي الأوروبي – منذُ أيَّامه الأولى – إباحي متعصب استفزازي، يأبى إلا أن يستخدم جميع عناصر البطش الحيواني، وقد صبغها بصورة من المثالية المصطنعة، لن نستطيع أن نفهم أوروبي اليوم، وغربي الغد، إن لم نعد إلى أجداده الرومان، بِقَسْوتِهم وعنفهم، فضلاً عن ذلك التحلل الأخلاقي الذي صبغ التاريخ الأوروبي، قصة صارخة لكل ما يقدمه انحدار الإنسان إلى مرتبة الحيوان من خصائص وصفات، وهذه صفحة أخرى تتوالَى فصولُها أمام أعيُنِنا في الأرض العربية باسم الصهيونية السياسية، ليست إلا تعبيرًا عن هذه الحقيقة.


 

بين الأول والثاني وجد الإنسان العربي: نبله معتدل، وإيمانه متأصل، وصلاحيته للمثاليات تلقائية، وهكذا اختارت العناية الإلهية تلك الأرض لتقدم الدعوة الربانية، وتزرع القيم والمثاليات السلوكية.
 

لقد تساءل أكثر من عالم واحد: ما هي خصائص الحضارة الخلاقة؟ ما هي تلك المتغيرات الثابتة التي يجب أن نبحث حول توفُّرِها واحترامها علامات الارتفاع والارتقاء للطبيعة الحضارية، أي لذلك المستوى الذي يَصِحُّ أن يُوصَفَ بالتَّمَيُّز، والذي يعطي وحده تلك الحضارة حق القيادة والتوجيه، وبحيث تستطيع مثل تلك الحضارة أن تنظر إلى الحضارات الأخرى من ذلك العلو الشاهق، الذي هو وحده محور العظمة الإنسانية؟ وثَمَّة مَحاوِرُ خَمسة يَجِبُ من حصيلتها رؤية ذلك النسيج الذي هو منطق التفوق الحضاري:
 

أولاً: نظام القِيم والمثاليات، الذي هو محور الوجود والممارسة.

ثانيًا: عالمية الوظيفة الحضارية.

ثالثًا: القدرة والمقدرة على تطويع الذات الجماعية.

رابعًا: الاستمرارية التي تعلن عن الصلابة والثبات.

خامسًا: إدارة الصراع.
 

أمتي وحدها استطاعت أن ترتفع بهذه العناصر الخمسة إلى مرتبة التكامل، ولكنها لم تقتصر على ذلك، ففي إحدى مراحل تاريخها كانت قادرة على أن تخلق من تلك العناصر إطارا متجانسًا للتعامل التاريخي، لم تستطع أن تقدمه أي حضارة أخرى.

لذلك سوف أظل عربيًّا! ولكن كيف حدث ذلك؟ مهلاً يا بني فالحديث طويل.
 

“أمتي العربية أوَّلاً هي أمة القيم”

نظام القيم الذي رسبته تقاليدنا السياسية، لا يزال في حاجة إلى كشف وتنظيف من تلك الرواسب التي علقت به، إن قصة تاريخنا الحقيقية هي قصة دفاعنا عن القيم والمثاليات، وتارة نجحنا، وتارة فشلنا، ولكن المحور الحقيقي لجميع صفحات الصراعات الحقيقية غلفتها قيم المثالية، ومثالية القيم؟

 

هذا التاريخ الذي أضحى يقدمه أعداؤنا وخصومنا على أنه أحاديث ألف ليلة وليلة، عامر بالنماذج التي تعلن ليس فقط عن إرادة التحدي، بل وعن الاستعداد للمغامرة بالذات في سبيل القيم العليا، التي سادت ذلك المجتمع وتقاليده، ألم نذكر من قبل قصة “أحمد بن حنبل؟” وهل هو الوحيد؟ وأين “ابن تيمية” أيضًا في عصور التدهور والانحطاط؟ فلنقتصر مؤقتا على أن نعود إلى قصة قيم التعامل الخارجي، لنكشف رحيق القيم التي أرستها تعاليم أمتنا وقصة الشهامة العربية.

 

السياسة الدولية لم تعترف بأي نوع من أنواع القيم، قامت على شريعة الغاب؛ حيث يقف الجنس البشري وقد تحول إلى مجموعة من الحيوانات الكاسرة، القوي يبتلع الضعيف، والقادر يطوع غير القادر لصالحه، وصاحب السيطرة يوظف الآخر لخدمته، لا موضع لأي لغة أخرى في ميدان التعامل بين الشعوب، قد تتعدد نماذج الوجود الإنساني، وقد تختلف تطبيقات التعامل الحضاري، وقد تتنوع أساليب الممارسة السياسية، ولكن عندما نقف نتأمل حقيقة وجوهر التعامل بين الدول والشعوب فلا موضع إلا للغة واحدة: منطق الغابة، ولغة البطش والأنانية، هكذا كان الإنسان في تاريخه القديم، ورغم جميع نداءات المثالية التي ظلت تتحدث في الداخل بلغة، وعندما تنتقل إلى الخارج تستخدم لغة أخرى، الأسطورة المعروفة باسم “حصان طروادة” ليستْ إلا نموذجًا يتكرر في جميع صفحات التاريخ القديم.
 

قيصر عندما دخل مصر زعم في خطبته المشهورة بأنَّه إنما أراد أن يعيد إلى المجتمع الفرعوني حرياته المفقودة، خديعة.. الواحدة تلو الأخرى، وكذب وتعامل من منطلق النسيان لجميع القيم والمثاليات.
 

قصة “روما” ليست سوى تأليه للقوَّة الغاشمة والعنف دون حدود، ودون قواعد في التعامل مع غير الروماني، إن من لا يحمل الجنسية الرومانية لمجرد أنه كذلك يحل قتله دون أي حساب أو مساءلة، العصور الوسطى لم تخرج عن هذه القاعدة، كان مؤلف “الأمير” لمكيافيللي هو الكتاب المقدس، الذي يحمله تحت إبطه كل أمير أوروبي، وكم تساءل أكثر من مفكر أوروبي خلال القرن الخامس عشر: حتى الحيوانات تخضع في صراعها لحد أدنى من قواعد التعامل، فهلا استطاع الإنسان أن يرتفع عن تلك البربرية التي تسيطر على جميع مسالك الصراع التصْفَوي بين الشعوب الأوروبية؟
 

ولماذا نذهب بعيدًا؟ تعالوا معي نقرأ تاريخ باباوات روما، حاملي مشعل القيم الكاثوليكية، وكم هي تقدم قصصًا عامرة بأقذر الممارسات، إن قصة “سيزار بورجيا” كافية لتقشعر من هولها الأبدان، فإذا وصلنا إلى حضارة عصر النهضة إذ بلغة القوة تتحول إلى منطق العنصرية: إن حق الشعب المختار أن يحكم ويوجه ويقود ويستأثر بالشعوب الأخرى، والشعب المختار هو الشعب الأبيض، وليس لأحد حق في الألوهية السياسية سوى ذلك الرجل الذي يحمل ملامح العنصر الآري، مأساة المجتمع الأوروبي هي قصة العنصرية التي لا تزال تتوالى فصولها أمام أعيننا، وهل تستطيع الحضارة الغربية أن ترفع عن ضميرها أربع مآس لم يعرف لها مثيلاً التاريخ الإنساني: استئصال الهنود الحمر في القارة الجديدة، ثم استئصال الأهل الأصليين في أستراليا، واستئصال اليهود في القارة الأوربية، ثم استئصال الفلسطينيين من أرض آبائهم؟
 

في مواجهة هذا المنطلق العنصري المتخلف تقف أمتي شامخة متميزة.

لماذا؟

سؤال يَجِبُ أن نُجيبَ عليْهِ حتَّى لا نُوصَفَ بالتحيُّز والاختلاق.
 

نظام القيم السياسية يدور حول أربعة أبواب: قِيَم التعامل الجماعي بين الشعوب، ثم قيم التعامل مع الفرد الأجنبي في داخل المجتمع السياسي، ويأتِي عقب ذلك فصل خاصٌّ بقيم التعامل الداخلي، أي تلك المثاليات التي تحكم علاقة الفرد المواطن بالسلطة، أي الحاكم بالمحكوم، ثم أخيرًا الفلسفة العامة للوجود الإنساني، أي نظرة المجتمع وعلاقته بالعالم الذي يحيط به وإليه ينتمي.

 

الباب الأول: يدور حول خصائص القيم التي تتحكم في علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى، سواء تلك التي تتعامل معه تعاملاً سليمًا، أم لا تتعامل معه كذلك، سواء في حالة الوفاق أو في حالة الحرب.

 

الباب الثاني: ويرتبط بالأجنبي عندما يقدر له التواجد في المجتمع القومي، هل يفقد آدميته، أم له حد أدنى من الحقوق، أم له حق المساواة مع المواطن، ولو في نطاق معين من الامتيازات والحصانات؟

الباب الثالث: وهو الذي يدور حول العلاقات المعتادة واليومية بين الحاكم والمحكوم.
 

ثم يأتي الباب الأخير: لينقلنا إلى نطاق الفلسفة العامة للوظيفة الحضارية.

لن نستطيع أن نفهم العظمة الحقيقية لحضارتنا العربية، ولسموها على جميع الحضارات الأخرى، إلا إذا تناولنا جميع هذه الأبواب، كل على حدة، فلنتذكر الكرم العربي، والشهامة العربية، والفروسية العربية، وقصص صلاح الدين خلال الحرب الصليبية على سبيل المثال.
 

ولكن لنقف مؤقتا إزاء أروع صفحات تلك القيم، وهي قيم التعامل الدولي في جميع مراحل الوجود الإنساني، وحتى هذه اللحظة ليس في التاريخ الإنسان سوى المجتمع العربي التقليدي.

 

لقد آمنت أمَّتِي بقواعدَ ثابتة، جعلت منها دستور الممارسة السياسية مع الشعوب الأخرى، وأطلقتها كقواعد للممارسات الدولية، ولم تقبل لها استثناء، ولو على حساب نفسها.

 

هذه القواعد يمكن تلخيصها بشرعية القتال دفاعًا عن مبادئها، مع احترام آدمية الإنسان في السلم والحرب، وفي كل الظروف، وعدم السماح للنزعة العنصرية بأن تحكم علاقة العربي بغيره، وحتى في ساحة القتال، فلا يجوز أن يكون الصدام المسلَّح مبررًا لإهدار آدمية الآخرين، نفس القواعد التي تطبق على الإنسان العربي يتمتع بها غيره، ويتحمَّل آثارها غيره، ولا يجوز – والحالة هذه – الاعتداء على المرأة أو الصبي أو العجوز.

______________________________________________________________
الكاتب: 
د. حامد ربيع


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *