إن دعوى الإلحاد تنزع الفضيلة والتراحم من العالم، لتزرع مكانها القسوة والظلم، والعذاب، وتجعل حياة البشر أسوأ من حياة الحيوان.
على حافلة كبيرة في عاصمة الضباب “لندن” جملة دعائية للملاحدة الجُدُد، مكتوب عليها: “في الأغلب ليس هناك إله، لا تقلق واستمتع بحياتك”.
فانظر إلى الكلمة الأولى في هذه الجملة، إنهم يقولون: في الأغلب؛ أي: إنهم يشكُّون في صدق إلحادهم، وإذا كان أهل الإلحاد يشكُّون في دعواهم، وهي ليست إلا باطلة، وضرب من الأوهام والخرافات، فنحن على يقين لا يعرف الشكَّ أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى البشرية، وأن الإسلام هو الدين الحقُّ.
وفي مقابل شكوك الملاحدة، نحن نُوقِن أن الإسلام هو دين الفطرة الإنسانية السليمة، والإسلام هو دين الله الذي ارتضاه للبشرية، والإسلام دين يقوم على توحيد الله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، والمسلم يعبد ربَّه حبًّا، وخوفًا وطمعًا؛ فالمسلم يعبد الله لأنه عرف أسماءه وصفاته، وعرف أن الله يجب له كل كمال، ويجب تنزيهه عن كل نقص، والمسلم يعبد ربَّه لأنه عَرَفَ جماله، وكماله، وعظمته وجلاله.
ولم يكن المجتمع المسلم يومًا ما بيئةً صالحة لبذور الإلحاد، التي تنكر وجود الله، ولكن الإلحاد نما وترعرع في المجتمعات الغربية؛ نتيجة للقهر والاستبداد، الذي مُورِسَ ضد الجماهير قرونًا متعاقبة، لا سيما في العصور الوسطى المظلمة، فلما بدأ العلم يخرج من القُمْقُم، ويشد طريقه لإنارة حياة البشر، مع فجر النهضة الأوربية الحديثة، ويرى المؤرخون أن بداية هذا العصر كان مع صدور كتاب عن دوران الأجرام السماوية للعالِم الفلكيِّ والرياضي البولندي كوبر نيكوس [1473 – 1543م]، الذي أثبت فيه بالحسابات الرياضية أن الأرض مجرد كوكب في المجموعة الشمسية، يدور حول الشمس، وجاء من بعده عالم الفلك الإيطالي الشهير جاليليو [1642 – 1727م]؛ ليؤكد من خلال استخدام التلسكوب ما توصَّل إليه كوبر نيكوس، وارتقت الجهود العلمية مرتقًى عاليًا على يد عالم الفيزياء البريطاني الشهير إسحاق نيوتن [1642 – 1727م]؛ ليخرجوا على العالم بحقائقَ علمية، لم يعرفها من قبلُ، فتصدَّت لهم الكنيسة بأنواع من الاضطهاد، والتعذيب، والتنكيل لم يعهدها الإنسان من قبل، بتهمة الهرطقة، ونصبت لهم محاكم التفتيش، ولكن العلماء صابروا، ورابطوا، حتى انتصروا في النهاية، على الممارسات القمعية، فكان هذا الاضطهاد والقمع الواقع على رؤوس العلماء كَنَسِيًّا – واحدًا من أهم أسباب نمو موجة الإلحاد في المجتمعات الغربية.
الإلحاد المعاصر كما الإلحاد القديم، يزعم كذبًا وزورًا بأن الكون نشأ تلقائيًّا؛ نتيجة لأحداث عشوائية، بلا صانع، ولا خالق، وينكرون البعث بعد الموت، وينكرون وجود إله في الكون، ولكن الإلحاد ظهرت عورته وأباطيله منذ القدم، ليناقض الملاحدة أنفسهم آلاف المرات، فيما عجزوا عن الإجابة عن أسئلة يسيرة، تهدم الإلحاد رأسًا على عَقِبٍ من أول وهلة، ومن المسائل المهمة التي فَتَّتْ في عَضُدِ فكرة الإلحاد أمام كل إنسان سليمِ العقل، صحيح القلب – مناقضةُ الإلحاد لمسلَّمات وأساسيات العقل والمنطق، ومن هذه الأساسيات: إذا كان من المستحيل وجود إبرة أو حذاء في هذا الوجود بلا صانع، فكيف تقولون: إن الوجود كله، والكون كله، بما فيه من جلال وجمال، وحكمة وإبداع، وعبقرية وذكاء، قد وُجِدَتْ صدفة بلا خالق، فكيف يصدقون أنفسهم في هذا الكذب الذي لا يقبله عقل، ولا يستسيغه منطق.
وإذا كان الملاحدة يقولون بعدم البعث بعد الموت، وبعدم وجود الجنة والنار، وليس لديهم أي دليل على ما يقولون، وقديمًا قال الشاعر:
قال المنجِّم والطبيب كلاهمـا ** لا تُبعَث الأموات قلت إليكمــــــا
إنْ صحَّ قولكما فلست بخاسرٍ ** وإن صحَّ قولي فالخَسار عليكما
فهنا الحكمة والعقل يوجبان الأخذ بالأحوط، فلم يذهب إنسان إلى عالم البرزخ، ثم عاد ليخبرنا بوجود الجنة والنار، أو عدم وجودها.
فإذا لم يكن لديكم دليل على عدم البعث بعد الموت، وعلى عدم وجود الجنة والنار، وبالتأكيد لا دليل لديكم، فإذا كان من المحتمل وجودهما، ولا يستحيل وجودهما، فلماذا لا تسلِّمون لله رب العالمين، وتأخذون بالأحوط؟ لأن كلامكم إن كان صحيحًا، فأهل الإيمان لم يخسروا شيئًا، وإن صح ادعاء أهل الإيمان – وهو صحيح بلا أدنى شك – فخسارة الملحدين هي الخسارة الكبرى في الدنيا والآخرة، فأين عقلكم؟ وأين حكمتكم؟ وأين ذكاؤكم؟ حتى تعرِّضوا أنفسكم لخسارة هي الكبري في الوجود كله.
ويجب أن يعلم كل ملحد بأن دعوى الإلحاد هي في حد ذاتها نشرٌ للظلم والرذيلة في العالم كله، على أفحش الأشكال والوجوه، فإذا لم يكن بعثٌ بعد الموت، ولم يكن هناك جنة ولا نار، فلِمَ لا يظلم الناس بعضهم بعضًا؟ ولِمَ لا يأكل القوي الضعيف؟ إن دعوى الإلحاد تنزع الفضيلة والتراحم من العالم، لتزرع مكانها القسوة والظلم، والعذاب، وتجعل حياة البشر أسوأ من حياة الحيوان.
_______________________________________________________
الكاتب: أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
Source link