هذا بعكس من يستثقل قدوم رمضان لأنه سيحرمه من السيجارة أو كوب الشاي أو فنجان القهوة الذي لا يغادر مكتبه، أو يحرمه من وجبات اعتاد عليها ومشروبات يرتوي بها. فمن أخلد إلى الأرض لا يرى في رمضان سوى صداع الرأس من شدة الجوع والعطش، وحرمان النفس مما لذ وطاب، وتعكير المزاج بتلجيم الملذات. فهو يسير في أيامه بملل يحاول أن يقتله بالنوم تارة وبالمسلسلات تارة وباللعب تارة أخرى…
المسلم الرمضاني له شأن في هذا الشهر الفضيل يختلف اختلافًا تامًا عن عموم الناس، إنه يدرك أن رمضان محطة غنية بالمعاني والدروس والتوجيهات غنى ربما لا يتأتى لشهر آخر، لذلك فهو يستشعر نوعا من المسئولية الذاتية والمجتمعيـة تحمله على محمل الجد والتميز رغبة منه في الفوز بأكبر قدر من منح وعطايا هذا الموسم الإيماني السنوي، خاصة والأجواء مهيئة والهمم متطلعة والمساجد عامرة والشياطين مصفدة ورحمات الله لا تحصى ولا تعد.
من هنا كان للمسلم الرمضاني سمت فريد وبصمة متميزة، فهو يعيش أجواء هذا الشهر برؤية خاصة وهمة عجيبة ورغبة ملحة في أن يدرك ركب الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
• المسلم الرمضاني: يتفاعل بشوق مع التغيرات الكونية التي تحدث في شهر الرحمات، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ» (صحيح البخاري: [1899])، وهذا الشوق ينبثق في دواخله حتى قبل أن يبدأ رمضان، فتجده كثيرًا ما يدعو: “اللهم بلغنا رمضان” حتى إذا أهل الشهر الفضيل استقبله بهمة جديدة وعزيمة فريدة، فالصلوات تستغرق الأوقات، وختمات القرآن تتوالى، والأذكار تلهج بها الألسنة، والصدقات تُغدق على ذوي الحاجات. فأوقاته من طاعة إلى طاعة، ومن قربة إلى قربة. لوم نفسه على التقصير أشد من لومها على جمع الجليل والحقير، ورحم الله الحسن البصري حيث يقول: “إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته”.
وهذا بعكس من يستثقل قدوم رمضان لأنه سيحرمه من السيجارة أو كوب الشاي أو فنجان القهوة الذي لا يغادر مكتبه، أو يحرمه من وجبات اعتاد عليها ومشروبات يرتوي بها. فمن أخلد إلى الأرض لا يرى في رمضان سوى صداع الرأس من شدة الجوع والعطش، وحرمان النفس مما لذ وطاب، وتعكير المزاج بتلجيم الملذات. فهو يسير في أيامه بملل يحاول أن يقتله بالنوم تارة وبالمسلسلات تارة وباللعب تارة أخرى!
قال الحسن البصري: “إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون”.
• المسلم الرمضاني: خلوق أكثر من أي وقت مضى، وأكثر من أي شهر انقضى، شعاره «إني صائم، إني صائم» (صحيح مسلم: [1151])، يتجلى في معاملاته ومناقشاته وحتى مجادلاته وخصوماته. إنه يتصالح مع نفسه عندما يتمثل الصيام واقعًا سلوكيًا لا شكليًا فقط. فهو صاحب (الصوم النظيف). الصائم الكاظم لغيظه والعافي عن الناس والمنضوي في قائمة المحسنين، رغبة في رضا رب العالمين. يمر باللغو مرور الكرام، ويدع قول الزور والعمل به، ويبذل النصح لكل مسلم، صومه عن المحرمات قرين صومه عن المطعومات، يحدوه الأمل في قبول الغفار والعتق من النيران.
• المسلم الرمضاني: يدرك جيدًا أن رمضان شهر النصر، ويستشعر عبق بدر وفتح مكة وعين جالوت وغيرها من الأمجاد، وإنما كان النصر الرمضاني فريدا لأن مدد الله في هذا الشهر فريدا أيضا، مع ما في رمضان من الصبر الذي هو قرين النصر، قال تعالى: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، ورمضان شهر الإرادة التي هي عامل قوي في حسم الحروب والمواقف، والصوم سبيل التقوى التي هي مفتاح محبة الله ومعيته وولايته ونصره وتأييده، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، ولذلك تجد المسلم الرمضاني في هذا الشهر يسعى للنصر سعيًا حثيثًا، نصرًا على النفس والهوى والملذات والشهوات، ونصرا على الكسل والفتور والسلبية، ونصرًا على رتابة الأحداث وملل الروتين اليومي، ونصرا يجعله -إن شاء الله- في مصاف عتقاء الله من النار في هذا الشهر الكريم.
• المسلم الرمضاني: إيجابي يحمل هم أمته، ويعايش بواقعية وحركية قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وتحقيق التقوى بالتزام أوامر الدين وواجباته، ومنها (واجب الدعوة) الذي تزداد أهميته ووجوبه في مثل هذا العصر الذي بعدت فيه الأمة عن جادتها وكثرت جراحها وأنات ضعفائها من كثرة هزائمها وإخفاقاتها، ولعبت فيه الآلة الإعلامية الفاسدة بعقول أبنائها، فتوجب على المستشعرين لهذه المسئولية الجسيمة عدم التواني في تعبيد الخلق لرب الخلق، ولم شعث الأمة، وتوجيه طالب الحق إلى معالم الصراط المستقيم، ودحض شبهات الأفاقين وتلبيسات الأفاكين.
والتاريخ يشهد والتجربة تحكي أنه يوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى، جمعهم اللهُ بعد فرقة، وأعزهم بعد ذلة، وفُتحت لهم البلاد، ومُصرت لهم الأمصار. كل ذلك تحقيقا لـموعودِ الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
المسلم الرمضاني: يعي حجم التحدي الذي يواجه هذه الأمة من غزو فكري يعلي قيمة المادة على الروح، ويعطى فيها الأولويةُ للمحسوس على المعنوي، وللمباشر على غير المباشر، وللآني على الآجل، وللقوة على الرحمة، وللمتغير على الثابت… إنها مفاهيم وقيم من ينظر تحت قدميه، ولا يدرك رسالة المرء الممتدة إلى حياة تكافلية وأبدية، وهو وضع خطير من شأنه أن يؤجج الغرائز ويهمش الفضائل ويحول المجتمع إلى غابة رعناء لا يرحم القوي فيها الضعيف، لذلك فرمضان للمسلم طاقة روحية تعبدية، ينعم فيه المؤمن بكل فضيلة ويحيد عن كل رذيلة، رضا الله في السر والعلن غايته، وطمأنينة نفسه أمنيته، والتراحم مع العالم رسالته.
ففي رمضان يجد المسلم الغذاء الروحي الذي تحيى به نفسه الصافية (شهر القلوب الرقيقة)، فهو القائم والراكع والساجد والقانت والمتضرع، وهو الداعي بكل خير، المتصدق بكل ما قدرت عليه طاقته، الناصح بكل ما جادت به قريحته، رجل التراويح وليلة القدر وتلاوة القرآن والتضرع بين يدي الرحمن… فرمضان مدرسته الإيمانية والتربوية والسلوكية، يغتنم أيامها ولياليها قبل أن تحل الزفرات، وتبدأ الآهات، وتشتد السكرات.
المسلم الرمضاني: جواد باقتدار، فرمضان بالنسبة له موسم المتصدقين وشهر الباذلين، وقدوته في ذلك أكرم الخلق وأجودهم صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة كما في الصحيحين.
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
ولذلك حرص السلف رحمهم الله على زيادة البذل والإنفاق وخصوصاً تفطير الصائمين، وكان كثير منهم يواسون بإفطارهم وربما آثروا به على أنفسهم، فكان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منع أهله المساكين عنه لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً، وكان يتصدق بالسكر ويقول: “سمعت الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:92]، والله يعلم أني أحب السكر”، وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه الإمام رغيفين كان يعدهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائماً.
إن هذه الأمة فريدة في إيمانها وعقيدتها وتعاليمها، ولقد أثرت عنها مواقف باهرة في التراحم وإغاثة المحتاج ونجدة الملهوف، حتى باتت قناعة راسخة على قمة هرم (فقه الأولويات). خرج عبد الله بن المبارك رحمه الله مرةً إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائرٌ معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابُه أمامه، وتخلَّف هو وراءهم..
فلما مرَّ بالمزبلة إذا جاريةٌ قد خَرَجَت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، ثم لَفَّتْهُ، ثم أسرعت به إلى الدار، فَتَبِعَها، وجاء إليها فسألها عن أمرِها، وأخذِها الميتة؟! فقالت: أنا وأخي هنا، ليس لنا شيءٌ إلا هذا الإزار، وليس لنا قُوتٌ إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وقد حلَّت لنا المَيْتَةُ منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظُلِم، وأُخِذَ مالُه وقُتِل! فأمر ابن المبارك بِرَدِّ أحمال القافلة، وقال لوكيله الذي معه المال: “كم معك من النفقة؟” قال: “ألف دينار”، فقال ابن المبارك: “عد منها عشرين ديناراً تكفينا للرجوع إلى مَرْو -بلدته-، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا هذا العام، ثم رجع”.
Source link