نحن نوقن بأن الناجحين يستمتعون – كما نستمتع – بالشمس الساطعة، والهواء الطلق، والحب والتقدير؛ يستمتعون بهذا أكثرَ مما يستمتع الفاشلون…
هل يبدو هذا أشبه باللغز؟! إنها الحقيقة التي تنطوي على الأمل والرجاء.
حماقة ولا شك! ولم يكن للوقود دخل فيما صنع الرجل، ولم يختر الوقت على أي وجه ينفقه، والطريق امتد شمالاً كما امتد جنوبًا، فليس على أيٍّ من هذه إذًا تثريب في تقصير الرجل عن بلوغ غايته!
فإذا حدَّثَنا الرجلُ بعد ذلك قائلاً: إنه استمتع بالرحلة التي قام بها في الاتجاه المضاد، وإنه لذَّ له أن يقود سيارته على غير هدى، بدلاً من أن يسيرها في اتجاه محدد، فهل نثني على الأسلوب الفلسفي الذي يتقبَّل به إخفاقَه؟
كلاَّ؛ بل ينبغي أن نحسبه أحمقَ، وحتى لو أنه أخطأ الاتجاه لاستغراقه في حلم من أحلام اليقظة، لما أعفانا هذا من أن ننحو عليه باللائمة؛ بل حتى لو أنه وصل وجْهَتَه بعد الميعاد؛ لأنه ضل الطريق عفوًا، لاتهمناه بسوء الحكم؛ لأنه كان في ميسوره أن ينظر خريطة الطريق؛ ليتعرف عليه قبل أن يبدأ!
وبرغم هذا، فنحن فيما يتصل باتجاهنا رأسًا إلى غايتنا في الحياة نسلك مسلكَ صاحبِنا الأحمق الذي سُقنا مَثَلَهُ! نسير في الاتجاه الخطأ، ونفشل حيث كان يَسعُنا النجاح بما أنفقناه في الفشل من وقت وجهد!
فالفشل ليس إلا دليلاً على أن مجهودًا قد بُذِل في الطريق الخطأ، ولا بُد للفشل من طاقة نشاطٍ!
هذه حقيقة قلَّما ندركها على الفور؛ فقد اعتدنا أن نرى الفشل نقيضًا للنجاح، ومن ثم عزونا للفشل نقائضَ صفات النجاح.
والنجاح يتطلب نشاطًا، فلا بد – إذًا – أن الفشل يتطلب جمودًا، وهذا حق، ولكن الجمود ليس معناه افتقاد الجهد، ودَعْ أيَّ عالم نفساني يخبرك كم يحتاج الرجل الناضج من الجهد ليقاوم الحركة، فثمة كفاح شديد لا بد منه لمغالبة قوى الحياة والحركة، بحيث يظل المرء جامدًا في مكانه.
غاية ما في الأمر أن الكفاح يحدث داخليًّا فلا نحس له – على السطح – أثرًا! والجمود البدني ليس دليلاً صحيحًا على أن الحياة لا تحترق بداخل الشخص الجامد، فحتى الكَسُول البادي الكسل يحرق وقودًا، بينما هو سادرٌ في خواطره.
وعندما يتأتَّى الفشل نتيجة تكريس الوقت لوسائل قتل الوقت؛ فهنالك نرى أن طاقة النشاط تُنفَق في الاتجاه الخطأ، ولكن ثمة وسائل لقتل الوقت خفيَّة غير مستبينة؛ بل لعلها تبدو على العكس كأنما هي أعمال شاقة تستنفد مجهودًا كبيرًا، وتستدر من المُشاهِد الإعجابَ والثناء، فإذا دقَّقتَ النظر اكشتفت أن هذا المجهود لا يفضي بنا إلى غاية، وأنه يَدَعنا متعبين ساخطين، وأنه مجهود يبذل فعلاً لاجتلاب الفشل!
فلماذا كان الأمر كذلك، ما دام النشاط نفسه خليقًا بأن يوصلنا إلى النجاح؟ فلماذا نتعثر في غالب الأحيان في بلوغ غاياتنا التي رسمنا لها الخطة وأعددنا العدة؟ لماذا لا ننجز إلا القليل، ونعطل أنفسنا عن الوصول إلى أهدافنا بحماقة؟
لماذا نعتبر أنفسنا فلاسفة حين ننتحل لأنفسنا أعذارًا عن بَدء الرحلة متأخرين أو بدئها في الطريق الخطأ، أو افتقادنا معالم الطريق نتيجة انسياقنا في الخواطر وأحلام اليقظة؟ لا أحد يجد العزاء حقًّا فيما يتقول به من أن عصفورًا في اليد خير من عشرة على الشجرة، فأمثال هذه “الحِكَم” لم تُضرَب لتقود خطانا في طريق الحياة! ونحن لا نخدع بهذا التفلسف أحدًا، وإن قَبِل الناسُ أعذارَنا ما داموا هم أيضًا على غرارنا!
وحتى حين نعزي أنفسنا عن الفشل، فإننا لا نُحس العزاء والراحة حقًّا، فنحن في ذات أنفسنا لا نؤمن بهذه الحِكَم والأمثال التي نتشدق بها، وإن بدَتْ في سمعنا طبيعيةَ الوقْع، ومن أمثلتها أن على المرء أن يختار بين النجاح وبين الحياة الممتعة، كأن النجاح والحياة الهانئة على طرفي نقيض!
فلماذا نفشل إذًا؟ بل لماذا نجتهد في الفشل؟:
لأننا إلى جانب خضوعنا لإرادات نفسية إنشائية شتَّى؛ كإرادة الحياة، وإرادة القوة، نخضع أيضًا لإرادة الفشل، أو إرادة الموت!
ولعل مِن الناس مَن يسمع بهذه “الإرادة” للمرة الأولى! فقد شبعنا سماعًا بإرادة الحياة، وإرادة القوة، ولكن إرادة الفشل من الغموض بحيث قلَّ أن نلحظها وهي تؤتي عملها، وهي تتخذ أشكالاً فردية شتى تختلف باختلاف النماذج “السيكولوجية” للأفراد، وهي تدهمنا بغير تحذير، ما دمنا لا نرى الفشل إلا طيفًا، ولا نراه قط حقيقةً مجسمة ينبغي أن نواجهها ونغالبها.
وإدراك أن ثمة إرادةً للفشل – أو إرادة للموت سيان – تعمل في نفوسنا؛ وأن ثمة تيارًا هدامًا مقوضًا يَسرِي في عكس اتجاه قُوَى الصحة والنمو – إدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى لتحويل الفشل إلى نجاح.
ولا ينبغي أن نبدأ بإهمال هذا التيار، فهو عندئذ خليق بأن يزداد استخفاء؛ بل ينبغي أن نواجهه حتى نقصيَه.
ففي إمكاننا أن نستعيد جهدنا الموجَّه إلى الفشل، وأن نستغله في تحقيق غاياتنا السليمة؛ وثمة حقائقُ سيكولوجية واضحة متى أدركناها أبلغتْنا إلى نتائجَ واضحةٍ محددة، ومن هذه النتائج نستطيع أن نختط خطة نعمل بمقتضاها، ثمة طريقة بسيطة عملية يَسَعها أن تحوِّل وجوهنا إلى الاتجاه الصحيح، وهي الطريقة التي يتبعها كل ناجح، سواء واعيًا أو غير واعٍ، وهي من البساطة بحيث قد لا يصدِّق أولئك الميالون إلى تجسيم الأمور أن في ميسورها أن تعينهم وتجديَهم، على أنني لا أحسبهم يمانعون في التجرِبة، ما دامت من البساطة كما ذكَرتُ، ولْنَدَع للنتائج الحُكْم، فما أحسب وسيلة مقترحة يقال: إنها تفضي إلى حياة أحفل، وعمل أفضل – إلا جديرة بالتجربة على أية حال!
كل ما ينبغي أن يتسلح به المرء لإجراء هذه التجربة هو الخيال والتضحية – لفترة – بما دَرَج عليه من عادات، ريثما يُتِم عملاً واحدًا من الأعمال التي يتطلع إليها، أما في كمْ مِن الوقت يتم هذا العمل؛ فأمرٌ يختلف من فرد إلى آخر، ويتوقف على طبيعة العمل نفسه، وهو يعتمد على الفرد نفسه، أو يعتمد على التعاون بينه وبين غيره من الناس، ومهما يكن من أمر فسوف تتضح بعضُ النتائج الأولية توًّا، وهي نتائج لعمري تثير الدهش، ولن أحصي لك هذه النتائج الآن، فسماعك بها كسماعك بمعجزة، وعسى أن تثير فيك الشك؛ والشك من العادات التي ينبغي أن تشرع من الآن في “التضحية” بها!
ومرة أخرى أكرِّر أنه وإن بدت النتائج كالمعجزات، فإن الطريقة نفسها من البساطة والوضوح بمكان عظيم، وإنها لجديرة بالتجربة؛ فقد حققت النجاح للمئات، وفي ميسورها أن تحققه لك.
_________________________________________________________
الكاتب: عبدالمنعم الزيادي
Source link