سنة الإفطار على الرطب والتمر أو الماء

قال النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أفطر أحدُكم فليُفطِر على تمر؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمرًا فالماء؛ فإنه طهور»

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد:

فلقد شُرع لنا إذا أراد الصائم أن يُفطِر أن يُفطِر على الرُّطَب أو التمر، وهذا الخطاب يشمل كل من كان صائمًا – فريضة أو نفلًا – أو الاعتياض عنهما – عند عدم وجودهما أو فقدهما – بالماء.

 

وهذا الذي شُرِع لنا لا شك أن فيه للصائم مصلحةً محققة، في دِينه ودنياه، ومعاده ومعاشه، أدرك ذلك مَن أدركه، وفات من فاته، وامتثاله فيه مزيد الرحمة بالصائم، والرفعة لدرجته، والرضوان؛ ولذلك أحببنا أن نقف مع سنة الإفطار على الرُّطَب أو التمر، فنقول مستعينين بالله:

 

مشروعية الفطر على الرُّطَب أو التمر:

عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يُفطِر قبل أن يصلي على رُطَبات، فإن لم تكن رطبات فتُمَيرات، فإن لم تكن تميرات حسَا حسَوات من ماء[1].

 

وعن سَلْمان بن عامر يبلغ به النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا أفطر أحدُكم فليُفطِر على تمر؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمرًا فالماء؛ فإنه طهور»[2].

 

فأرشد الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم أن يُفطِر الصائم على رطبات[3] – إذا كان الرُّطَب موجودًا – وإلا فعلى تمرات[4]، وإلا فعلى حسَوات من ماء.

 

وقد أهمل هذا وفرَّط فيه وضيَّعه الكثيرون؛ يقول العلامة الألباني – رحمه الله – بعد ذِكره لحديث أنس – رضي الله عنه – السابق: “الغرض من ذِكْري للحديث مع الإيجاز في التخريج إنما هو التذكيرُ بهذه السنَّة التي أهملها أكثرُ الصائمين، وبخاصة في الدعوات العامة التي يُهيَّأ فيها ما لذَّ وطاب من الطعام والشراب، أما الرُّطَب أو التمر على الأقل فليس له ذِكر، وأنكرُ من ذلك إهمالهم الإفطار على حسوات من ماء! فطوبى لمن كان من: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18]”[5].

 

ولا شك أن في كل منهما – أعني: الرُّطَب أو التمر – موادَّ غذائية طيبة ونافعة ومتنوعة – يعلم هذا أهل المعرفة أو الاختصاص، وسنأتي بشيء من كلامهم لاحقًا – لا تتهيأ لنا من غيرهما، حتى يعول الشرع عليهما دون غيرهما، فهما: غذاء للأرواح، وغذاء الأبدان، وغذاء للنفوس، وغذاء للقلوب وقوتٌ لها.

 

وإن مِن شأن جسم الإنسان إذا كان جائعًا أن يأخذ من الطعام ما يستغني به عن غيره، والذي يتناسب معه، ولا يأكل منه حين يأكل إلا بكراهة، وتجشُّم، وعناء، فكيف إذا كان صائمًا؟! ثم كيف إذا كان مع صيامه، وأريد منه أن يأكل ما ربما ضرَّه أكلُه، أو لم ينتفع به، أو ما لا يصل له منه ما هو بحاجة له، أولم يكُنْ هو المغذي النافع له الذي يقيم بدنه ويقوِّيه؟!

 

ولا شك أن في الرُّطَب والتمر من جملة المواد الغذائية القليلة – والقليلة جدًّا – التي تحتوي على خصائصَ لا تتوفر في غيره: فهو مكوَّن من جملة من المواد السكرية التي من السهولة بمكان على البدن امتصاصُها والاستفادة منها سريعًا، ومن ثم توزيعها على الجسم بكمياتٍ تتناسب وحاجتَه إليها، إضافةً إلى أن البدن يسهل عليه تمامًا التعامل معه، ولا سيما مع خلو المعدة، فيحقق بسهولة ويسر الهدف المنشود منه – من قِبل الصائم – وهو دفع الجوع والعطش معًا، بأسرع وقت، وأقل كلفة.

 

ولذلك ناسب – من كل وجه – أن يُفطِر عليهما الصائم، ولا سيما أن فيهما – كما قلنا – جميعَ المواد الغذائية، إضافة إلى أن في كل منهما – الرُّطَب والتمر – ما يدفعُ المشقة والتعب، ويشدُّ ويقوِّي البدن، ولا سيما الكبد، ويُلِين الطبع، ويقتل ما قد يضر البدن؛ كالدودِ وغيره، ويصلحه، ويدفع بأوجاعه، وبالجملة فهما: يعالجان الأبدان والقلوب، بل إنه لا يوجد ثمر يمكن للإنسان أن يقتات به وحَسْب على المدى الطويل مثل: التمر أو الرُّطَب؛ ولذلك نرى في حديث عروة عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت لعروة – ابن أختها -: (إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقِدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نارٌ، فقلتُ: ما كان يُعيِّشكم[6]؟ قالت: الأسودانِ: التمر والماء)[7].

 

وقد قيل: إنه زاد المسافر، وفاكهة المقيم، وقد قالت عائشة – رضي الله عنها -: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عائشة، بيتٌ لا تمر فيه جِياعٌ أهله، يا عائشة، بيتٌ لا تمرَ فيه جياعٌ أهله – أو جاع أهله» – قالها مرتين أو ثلاثًا))[8].

 

والعلة – كما قال المناوي وغيره -: “لكونه أنفس الثمار التي بها قوامُ الأنفس والأبدان، مع كونه أغلبَ أقوات الحجاز في ذلك الزمن”[9].

 

كما أن في الحديث فضيلةً ظاهرة للتمر على غيره، والحث عليه، وأن كلَّ بيت فيه تمرٌ لا يجُوعُ أهله، وإنما الجائع مَن ليس عنده تمرٌ.

 

الطب المعاصر وفضل الإفطار على الرُّطَب أو التمر:

يقول عبدالباسط محمد السيد: “في إفطارِه صلى الله عليه وآله وسلم على الرُّطَب أو التمر ما يظهر نور النبوة؛ وذلك لأن الصائم يعتمد على ما يوجد بجسمه من سُكَّر، وخاصة المخزون منه في الكبد، والسكر الموجود في طعام السحور يكفي لـ (6) ساعات، وبعد ذلك يبدأ الإمداد من المخزون الموجود بالكبد، ومن هنا فإن الصائم إذا أفطر على التمر أو الرُّطَب – وهي تحتوي على سكريات أحادية – فإنها تصل سريعًا إلى الكبد والدم الذي يصل بدوره إلى الأعضاء، وخاصة المخ، أما الذي يملأ معدته بالطعام والشراب، فيحتاج لمدة من ساعتين إلى ثلاثِ ساعات حتى تمتص أمعاؤُه السُّكَّر”[10].

 

ويقول عبدالدائم الكحيل: “إن الإفطارَ على التمر – المقاوم للسموم – هو بحقٍّ علاجٌ متكامل للضعف والوهن الناتج من تراكمِ المواد السامَّة والمعادن الثقيلة في خلايا الجسم”[11].

 

ويقول – أيضًا -: “يعالج التمرُ الكبدَ، ويخلصه من السموم، وإذا ترافق الصومُ مع الإفطار على التمر، كان بحقٍّ من أروعِ الأدوية الطبيعية؛ لصيانة وتنظيف الكبد من السموم المتراكمة فيه”[12].

 

كما أنه من الثابت المتقرِّر عند الكثيرين عِلميًّا: أن السكَّر والماء هما أولُ ما يحتاج إليه جسمُ الصائم؛ لأن نقص السكَّر في الجسم يسبب الضَّعف العام، واضطرابَ الأعصاب.

 

كما أن نقصَ الماء في الجسم يسبِّب قلة مقاومته وضعفه، والسكريات الموجودة في التمر سريعةُ الامتصاص لا تحتاجُ إلى عمليات هضم، ولا إلى عمليات كيميائية معقدة؛ فهو أفضل الأغذية التي تمد الجسمَ بالطاقة والنشاط في أسرع وقت ممكن؛ لأنه يحتوي على نسبةٍ عالية من البروتينات والسكريات التي تقومُ بعملية بناء الجسم وإمداده بالطاقة اللازمة.

 

فإفطارُ الصائمين بالتمر الذي يحوي المواد السكَّرية التي يمتصُّها الجسمُ بسرعة، يُعوِّضُه عن نقص السكَّر في الدم أثناء الصوم.

 

كما أثبتت الدراساتُ العِلمية الحديثة – كما يقول الأستاذ عبدالرزاق نوفل -: أن التمر يُضفي السكينةَ والهدوء على النفوس المضطربة والقلقة، وكذلك يعادل من نشاط الغدَّة الدرقية حين تزداد إفرازاتها، فيؤدي ذلك إلى اعتدال المزاج العصبي.

 

وأثبت الطب الحديث أن التمرَ يحتوي على:

نسبة عالية من المواد النشوية المولدة للطاقة، من سكر الفركتوز، وسكر الجلوكوز.

ونسبة عالية من الفيتامينات التي تَقِي من البلاجرا.

وكميات من مركبات الكالسيوم التي تدخُلُ في تكوين العِظام.

ونسبة عالية من الفوسفور والحديد.

 

إضافة إلى أن في هذا الأحاديث السابقة – أيضًا – عَلَمًا من أعلام النبوة؛ فإن الماء نافع للمعدة مع خلوِّها من الطعام، كما قرَّر ذلك الطب الحديث، وهو موافق لِما قرره نبيُّ الهدى صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد جاء دِيننا الحنيف بطب القلوب، وطب الأبدان.

 

ابن القيم وسنَّة الإفطار على الرُّطَب أو التمر:

قال ابن القيم: “وهو مِن أكثر الثمار تغذيةً للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتُلُ الدود؛ فإنه مع حرارته فيه قوَّة ترياقية، فإذا أديم استعمالُه على الريق خفف مادة الدود، وأضعفه وقلَّله، أو قتله، وهو فاكهة، وغِذاء، ودواء، وشراب، وحلوى”[13].

 

وقال – أيضًا – رحمه الله: “وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحضُّ على الفِطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وهذا من كمال شفقتِه على أمَّته ونصحهم؛ فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلوَ مع خلو المعدة أَدْعى إلى قَبوله، وانتفاع القوى به، ولا سيما القوة الباصرة؛ فإنها تقوَى به، وحلاوة المدينة التمر، ومرباهم عليه، وهو عندهم قوتٌ وأدمٌ، ورطبه فاكهة.

 

وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوعُ يُبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده؛ ولهذا كان الأَولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشُرب قليلٍ من الماء، ثم يأكل بعده هذا، مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثيرٌ في صلاح القلب، لا يعلَمُها إلا أطبَّاء القلوب”[14].

 

فطور التَّمر سُنَّه    رسولُ الله سَنَّــهْ 

ينالُ الأجرَ عبـدٌ    سيُحيي منه سُنَّهْ 

 

وقال – رحمه الله-: “طبع الرُّطَب طبعُ المياه حارٌّ رَطب، يقوِّي المعدة الباردة ويوافقها، ويزيد في الباهِ، ويخصب البدن، ويوافق أصحابَ الأمزجة الباردة ويغذو غذاءً كثيرًا.

 

إلى أن قال: وفي فطر النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصوم عليه، أو على التمر، أو الماء، تدبيرٌ لطيف جدًّا؛ فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء، فلا تجد الكبدُ فيها ما تجذِبُه وترسله إلى القُوى والأعضاء، والحُلوُ أسرع شيءٍ وصولًا إلى الكبد وأحبُّه إليها، ولا سيما إن كان رطبًا فيشتد قبولُها له فتنتفع به هي والقوى، فإن لم يكُنْ فالتمر لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكُنْ فحسَوات الماءِ تُطفِئ لهيبَ المعدة وحرارةَ الصوم فتتنبَّه بعده للطعامِ، وتأخُذُه بشهوة”[15].

 

وفي الختام: أسأل اللهَ – عز وجل – أن يرزقَنا اتِّباعَ كتابِه الكريم، وسنَّةَ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرًا وباطنًا.

 


[1] أخرجه أحمد (3/164) وقال شعيب الأرناؤوط: “إسناده صحيح على شرط مسلم, رجاله ثقات رجال الشيخين غير جعفر بن سليمان فمن رجال مسلم”، والترمذي رقم: (696) وقال: هذا حديث حسن غريب، وأبو داود رقم: (2358)، وصححه المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير (2/546)، والألباني.

[2] أخرجه أحمد (4/17)، والترمذي رقم: (658)، وقال: حديث حسن، والنسائي في الكبرى رقم: (3319)، وابن ماجه رقم: (1699)، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وضعفه الألباني في الضعيفة رقم: (6383)، وقال: “والصحيح من فعله صلى الله عليه وآله وسلم”.

[3] الرُّطَب: فيه رطوبة زائدة، أما التمر فقد تخلص من كل الرطوبات، وقد قيل: إن جيد الرطب هو ما كثُر لحاؤه، ورق سحاؤه، وصغر نواه؛ غريب الحديث للخطابي (2/526) للخطابي.

[4] التمر: “من ثمر النخل كالزبيبِ من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يترك على النخل بعد إرطابه حتى يجفَّ أو يقارب ثم يقطع ويترك في الشمس حتى ييبس”؛ المصباح المنير (ص: 44) للفيومي.

[5] السلسلة الصحيحة (6/821) رقم: (2840).

[6] في بعضها: (يغيثكم).

[7] أخرجه البخاري رقم: (6094)، ومسلم رقم: (2972).

[8] أخرجه مسلم رقم: (2046).

[9] التيسير بشرح الجامع الصغير (1/886)، وفيض القدير شرح الجامع الصغير (3/209).

[10] وصفات طبية من الكتاب والسنة (ص: 15).

[11] روائع الإعجاز الطبي في القرآن والسنة (ص: 19).

[12] روائع الإعجاز الطبي في القرآن والسنة (ص: 19).

[13] زاد المعاد (4/267).

[14] زاد المعاد (2/47).

[15] زاد المعاد (4/286).

_______________________________________________________
الكاتب: بكر البعداني


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *