إياك أن تكون دنيء الهمة ساقط العزيمة

عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتيِ العَزَائِـمُ  **  وَتَأْتي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المكَـــارِمُ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 25].

 

تأمل قَولَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، يعني عن نكاح الإماء، مع خشية العنت!

 

وما ذلك إلا لما يريده الله تعالى بعباده من الرفعة، والكرامة، وعلو الهمة، فإنَّ من تزوج أمةً صار أولاده منها عبيدًا، وكان لهم من الضِّعةِ والمهانة نصيبًا، ومن الذلِّ والضعفِ حظًّا موفورًا.

 

وأَنَّى لمثل هؤلاء النجابةُ؟

ومن أين يأتيهم الشرفُ؟ وكيف تكون لهم الأنفةُ وهم يرسفون في أغلالِ الرقِّ، ويطوق أعناقهم قيد العبودية؟

 

وأَنَّى لهم النبوغُ وهو سلعةٌ تباع وتشترى، ولا يملك من أمره نقيرًا؟

وإنما يريد الله تعالى للمؤمنين الكرامة في الدنيا والرفعة الآخرة؛ فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ»، قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «يَتَعَرَّضُ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ»[1].

 

وإياك أن تكون دنيء الهمةِ، ساقط العزيمة، ضعيف الإرادة، وكن رجلًا همته المعالي، يسامي الثريا؛ فما أجمَلَ قول القائل:

عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتيِ العَزَائِـمُ  **  وَتَأْتي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المكَـــارِمُ 

وَتَعْظُمُ في عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهـا  **  وَتَصْغُرُ في عَيْنِ العَظِيمِ العَظَائِمُ 

 

لأنها مصدر قوة المسلمين، وسبب رُقيهم؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].

 

تأمل قَولَ اللَّهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ…….}، وانظر إلى حال أولئك الذين يستنكفون من تطبيق أحكام الشرع، ويعارضونها أشد المعارضة، ويحاربون بكل ما أوتوا من قوة للحيلولة دون تحكيمها في واقع الناس وحياتهم!

 

ولتفهم تلك المعضلة، أعني أنها أحكام شرعية أنزلها الله تعالى في كتابه وشرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لتكون دستورًا للناس، ونبراسًا ينير دياجير الظلمات التي تتخبط فيها البشرية، وسبيلًا لبلوغ مرضاة الله سلكه السابقون من الأنبياء والرسل، وسببًا للتوبة من الآثام، وتطهيرًا للنفوس من أدرانها، ومع ذلك تلقى تلك المعارضة الشديدة من قطاع عريض ممن ينتسبون للإسلام، أقول لتفهم ذلك يجب عليك أن تعلم أنَّ النَّاسَ أصنافٌ ثلاثةٌ لا رابعَ لهم: مؤمنون، ومنافقون وكفار.

 

أقل هؤلاء الأصناف عددًا هم المؤمنون؛ قَالَ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وأكثرهم الكفار؛ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 116]، وينضوي تحت تلك الكثرة الكفار على اختلاف مللهم وتباين نِحلهم، والمنافقون الذين يظهرون الإسلام مكرًا وخداعًا، ويبطنون الكفر دينًا واعتقادًا.

 

فأمَّا الكفار فهم أحرص الناس على تنحية الشريعة جانبًا عن حياة المسلمين، لعلمهم أنها مصدر قوة المسلمين، وسبب رُقيهم وتقدُّمهم، والشواهد على ذلك من تاريخ المسلمين كثيرة جدًّا، فلا يتورعون عن الشجب والاستنكار، والمعارضة بكل سبيل، لكل من ينادي بتطبيق أحكام الشرع في بلاد المسلمين، بل يصل الأمر إذا جد الجد إلى التهديد بالحرب، ففي تسعينيات القرن الماضي حين وصل الإسلاميون إلى الحكم في الجزائر، هددت فرنسا بالتدخل عسكريًّا؛ حتى لا تسود أحكام الإسلام على أرض المسلمين.

 

وتتقاطع مصالح المنافقين الذين يستميتون لمنع تطبيق الشريعة مع هؤلاء الكفار لبغُضهم لشرع الله تعالى؛ ألم يقل الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، فكيف ترجو ممن كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ أن تطيب نفوسهم بالاحتكام إلى شريعته؟

 

يريدون مَيْلًا لا استقامةَ معه، وسقوطًا لا نهوضَ بعده؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].

 

تأمَّل حال أولئك الذين ينازعون الله تعالى في سلطانه، ويسعون جاهدين لنشر الفواحش بين العبادِ، بعد أن غرقوا هم فيها!

 

يعلمون أنَّ الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النَّحْلِ: 90]، ومع ذلك يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، ويقتفون آثارها، ويركبون في سبيل تحصيلها الصعب والذلول، ولا يقف بهم الحال عند هذا الحدِّ، بل يحرصون على نشرها بين الصالحين بكل سبيل، ويزينونها بكل وسيلة.

 

وما مثل هؤلاء الغارقين في الفواحش الذين يحبون إشاعتها بين المؤمنين إلا كمثل القائل: (ودت الزانية لو زنت النساء).

 

هؤلاء الذين هذه صفاتهم وكلاء للشيطان، وهم جنوده الذين يمتثلون أوامره ويطيعونه طاعة مطلقة؛ ألم يقل الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، بل هم أنفسهم شياطين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وليس في الكلام أدنى مبالغة، أليس قد قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الْأَنْعَامِ: 112]، فمن البشر شياطين لا يقلون عتوًّا وتمردًا عن أوامر الله تعالى من شياطين الجن.

 

ثم تأمل غايتهم التي يسعون لتحقيقها! لا يكتفون بمجرد الانحراف عن الجادة، بل يريدون مَيْلًا عظيمًا لا استقامةَ معه، وسقوطًا لا نهوضَ بعده؛ فاحذروا يا عباد الله شياطين الإنس وإن تكلَّموا بألسنتكم، وتزيَّوا بأزيائكم، وزعموا أنهم يريدون الخير لكم، فكم من مريد للخير لا يبلغه.

 


[1] رواه الترمذي- أَبْوَابُ الْفِتَنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَابٌ، حديث رقم: 2254، وابن ماجه- كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [المائدة: 105]، حديث رقم: 4016، بسند صحيح


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *