أن المُسلم إذا عمل وأخرج زكاته طعامًا بَرِئتْ ذِمَّتُه، ودع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
اختلف العُلماء قديمًا وحديثًا في حُكم هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
عدم جواز ذلك، وهو قول جُمهور العُلماء من المالكية والشافعية والمشهور عند الحنابلة، وبه قال الظاهريَّة.
ومن أقوالهم في ذلك:
قال مالك رحمه الله: (ولا يُجزئ أن يجعل الرجل مكان زكاة الفطر عرضًا من العُروض- أي: قيمة – وليس كذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام)[1]؛ ا هـ.
وقال الشافعي رحمه الله: (لا تُجزئ القيمة- أي: في زكاة الفطر-)[2]؛ ا هـ.
وقال ابن قُدامة رحمه الله: (قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطي دراهم- يعني في صدقة الفطر- قال: أخاف ألَّا يُجزئه، خلاف سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال أبوطالب: (قال لي أحمد: لا يُعطي قيمته، قيل له: قوم يقولون: عُمر بن عبدالعزيز كان يأخذ بالقيمة، قال: يدعون قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: قال فُلان؟!).
قال ابن عُمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقال قوم يردُّون السُّنَن: قال فُلان، قال فُلان. وظاهر مذهبه أنه لا يُجزئه إخراج القيمة في شيء من الزكوات)[3]؛ ا هـ.
وقال ابن حزم الظاهري رحمه الله: (ولا تُجزئ القيمة أصلًا؛ لأن كل ذلك غير ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم)[4]؛ ا هـ.
واستدلوا بما يلي:
1- عن عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحُرِّ، والذكر والأُنثى، والصغير والكبير، من المُسلمين، وأمر بها أن تُؤدى قبل خُروج الناس إلى الصلاة)[5].
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عيَّن الأصناف التي تُخرَج منها زكاة الفطر مع أن التعامل بالنُّقود “الدرهم والدينار” في هذا الوقت كان قائمًا والحاجة تدعو إليها، فلو كانت القيمة يجوز إخراجُها في زكاة الفطر، لذكَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز”، ولو وقع ذلك لفَعَلَه أصحابُه رضي الله عنهم.
2- أن الأصل في العبادات التوقيف على الكِتاب والسُّنَّة، فلا يجوز لأحَدٍ أن يتعبَّد عبادةً بكيف مُعيَّن إلا أن يكون ذلك الكيف وارِدًا عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم القائل: «من عمل عملًا ليس عليه أمْرُنا فهو رَدٌّ» [6].
وقد فرض الله عز وجل الفطر بلسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم على عامة المُسلمين صاعًا من طعام أو تمر… إلخ، فلا يجوز مُخالفة ذلك؛ لقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
3- أن إخراجها نُقُودًا مُخالفٌ أيضًا لسُنَّة الخُلفاء الراشدين؛ فإنهم أخرجوها طعامًا برغم توافُر المال حينذاك، وبرغم حاجتهم إليه، وقد كان مُجتمعُهم أشَدَّ فقرًا وحاجةً.
4- أن الله عز وجل شرع أنواعًا للزكاة، ونَصَّ في كل نوع على إخراج أشياء من جنسه، فنَصَّ في الزُّرُوع على زَرْع، وفي المال منه، وفي الأنعام منها، وفي الكَفَّارات على كسوة وإطعام وعتق رقبة، وفي الفطر على طعام، ولم يذكر معه غيره، فدَلَّ هذا التغايُر على أن هذه النُّصوص مُقصودة لله، كُلٌّ في موضعه.
فيجب التزام ظاهر النصِّ الذي دلَّ على الواجب وعيَّن نوعه من باب الاحتياط في الدين وعملًا بأن الأصل في حُكْم زكاة الفطر التعبُّد، وأنها تجري مجرى صدقة البدن لا المال؛ لذلك لا يجوز العُدُول عن ظاهر النصِّ إلى القيمة، كما لا يجوز ذلك في الأضحية والكفَّارات والنُّذُور ونحوها.
5- أن المُسلم إذا عمل وأخرج زكاته طعامًا بَرِئتْ ذِمَّتُه، فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك»[7].
قال المناوي رحمه الله: (” دع ما يُريبك “؛ أي: اترك ما تشُكُّ في كونه حسنًا أو قبيحًا أو حلالًا أو حرامًا “إلى ما لا يُريبك”؛ أي: واعدل إلى ما لا شَكَّ فيه، يعني: ما تيقَّنْتَ حُسْنه وحِلَّه)[8]؛ ا هـ.
6- أن إخراجها طعامًا يُناسِب كل زمان ومكان وحال.
القول الثاني:
يجوز إخراج القيمة (النُّقود) في زكاة الفطر وهو قول الحنفية.
وممن قال بهذا من الصحابة رضي الله عنهم: عُمر بن الخطاب وابنه عبدالله بن عُمر، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، ومُعاذ بن جبل.
قال أبو إسحاق السبيعي وهو من الطبقة الوسطى من التابعين: (أدركتهم – يعني الصحابة – وهم يُعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام)[9].
وممن قال بهذا من التابعين عُمر بن عبدالعزيز، والحسن البصري، وسُفيان الثوري، وطاووس بن كيسان.
واستدلُّوا بما يلي:
1- عُموم حديث ابن عُمر رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أغنُوهم عن طوافِ هذا اليوم»[10].
2- عن قرة قال: (جاءنا كتاب عُمر بن عبدالعزيز في صدقة الفطر: نصف صاع عن كل إنسان، أو قيمته نصف درهم)[11].
3- قال الحسن البصري رحمه الله: (لا بأس أن تُعطى الدراهم في صدقة الفطر)[12].
4- أن الأصل في الصدقة المال؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103].
والمال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة، وأُطلق على ما يُقْتَنَى من الأعيان مجازًا، وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج؛ لا لتقييد الواجب وحصر المقصود.
5- أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة، فمِنْ ذلك ما ورد عن طاوس عن مُعاذ رضي الله عنه.
قال البُخاري رحمه الله في صحيحه بعد أن عَنْون: (باب العرض في الزكاة): (وقال طاوس: قال مُعاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لَبِيسٍ في الصدقة مكان الشعير والذُّرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة)[13].
ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن ابن رشيد قال: (وافَقَ البُخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مُخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل)[14].
وفعل مُعاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدلُّ على جوازه ومشروعيته.
7- أن النبي صلى الله عليه وسلم غايَرَ بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة، فجَعَل من التمر والشعير صاعًا، ومن البُرِّ نصف صاع؛ وذلك لكونه أكثر ثمنًا في عصره، فدَلَّ على أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر القيمة.
ورواية (نصف الصاع من البُرِّ) ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طُرُق كثيرة، ولا يسلم ضعفها؛ كما قال بعض المُحدِّثين.
8- أن المقصود من صدقة الفطر إغناء الفُقراء وسدُّ حاجتهم، وهذا المقصود يتحقَّق بالنُّقود أكثر من تحقُّقه بالأعيان؛ لأن نفع النُّقود للفُقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأُرز لهم، ولأنَّ الفقير يستطيع بالنُّقود أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأُسرته وتمكّنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات.
وقد يضطر الفُقراء أحيانًا إلى بيع هذه الأعيان (القمح والأُرز…) إلى التُّجَّار بأبْخَس الأثمان؛ نظرًا لحاجتهم إلى النُّقود في قضاء حوائجهم.
القول الثالث:
يجوز إخراج زكاة الفطر بالقيمة إذا اقتضت الحاجة أو المصلحة الراجحة ذلك، وهو رواية عند الحنابلة، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما إذا أعطاه القيمة ففيه نزاع: هل يجوز مُطلقًا؟ أو لا يجوز مُطلقًا؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، وهذا القول أعدل الأقوال “يعني: الأخير”)[15]؛ ا هـ.
وقال أيضًا رحمه الله: (والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه؛ ولهذا قَدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهمًا، ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوَّز إخراج القيمة مُطلقًا فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مَبْناها على المُواساة، وهذا مُعتبَر في مقدار المال وجنسه، وأمَّا إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به)[16]؛ ا هـ.
الترجيح:
أولًا: أقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو إخراجها عينًا من غالب قُوتِ أهل البلد من باب الاحتياط، وخُروجًا من الخلاف، وإعمالًا للنصِّ الوارد في ذلك.
ثانيًا: القول الراجح أن إخراج القيمة في زكاة الفِطر يجوز إذا اقتضى ذلك حُصول المصلحة الراجحة، ودفع المشقة؛ لأن المقصود من زكاة الفِطر إغناء الفُقراء وسدُّ حاجتهم من شراء ما يلزمهم من أطعمة وملابس ونحوها.
وهذا المقصود يتحقق بالنقود أكثر من تحققه بالأعيان؛ لأن نفع النُّقود للفُقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأُرز لهم، ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأُسرته؛ إذ الفقير في زماننا هذا بحاجة إلى نقود لدفعها في شتى أنواع الضرورات والحاجات التي تتعلق به وبأُسرته.
ومن المشاهد في بعض بلاد المُسلمين أن الفُقراء يبيعون الأعيان التي تُعطى لهم من الزكاة مثل القمح والأرز ونحوهما إلى التُّجَّار بأبخس الأثمان؛ نظرًا لحاجتهم إلى النُّقود.
فهذا القول فيه جمع بين الأدلة الواردة وتحقيق المصلحة الراجحة في ذلك.
تنبيه هام:
هذه المسألة كغيرها من مسائل الخلاف السائغ، فهي ليست من مسائل الاعتقاد، ولا من أصول الدين، وإنما هي مسألة من مسائل الفُروع، والخلافُ فيها لا يُوجِب بغضًا ولا هجرًا ولا قطيعةً بين عُموم المُسلمين وخاصة طلاب العلم منهم؛ لأن الخلاف في مسائل الفُروع ليس فيه هدًى وضلال، وليس فيه إيمانٌ وكُفْرٌ؛ بل يصعب أن يكون فيه خطأ وصواب، وإنَّما قد يكون فيه راجح ومرجوح وقوي وأقوى.
فليسع الجميع في هذه المسائل ما وسع عُلماء الأُمة الثقات من المُتقدمين والمُتأخِّرين، وهذا بعض ما ذكر فيها عنهم بأوضح عبارة وبيان.
ومن خلال هذا العرض في هذه المسألة يتبين ويتضح سبب الخلاف بين العلماء في حُكْمِها، وأنَّ الخلاف فيها قديم، وبكُلٍّ من القولين قال بعض أئمة أهل السُّنَّة، ولكن علينا أن نتحرَّى الإصابة لما كلفنا الله تعالى به من الأحكام، ولا يسع المُسْلم القادر على النظر في الأقوال والآراء أن يُقلد غيره من العُلماء دون أن يعلم ما استندوا إليه من أدلة الشرع الحنيف، فعليه أن يتحرَّى مُراد الله تعالى وحُكمه ما استطاع إليه سبيلًا؛ ولكن عليه أن يتحلَّى بشعار العُلماء بعد ذلك في كل مسألة فيها خلاف، وهذا الشعار هو: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
أخي الحبيب، أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافيًا كافيًا في توضيح المراد، وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل.
وما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، والله الموفِّق وصلَّى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] المدونة الكبرى (2/ 358).
[2] الأُم (2/ 72).
[3] المُغني (2/ 357).
[4] المُحلى (6/ 137).
[5] رواه البخاري (1503)، ومسلم (986)، وهذا لفظ البخاري.
[6] رواه مسلم (1718).
[7] رواه الترمذي (2518) والنسائي (5711) وابن حبان (722) وابن خزيمة (2348) والبيهقي (10819) وأحمد (1723)، وصحَّحَه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1737).
[8] فيض القدير (3/ 529).
[9] مصنف ابن أبي شيبة (3/ 174).
[10] رواه البيهقي (7739) والدارقطني (2133) وضعَّفَه الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (844).
[11] مصنف ابن أبي شيبة (2/ 398).
[12] مصنف ابن أبي شيبة (2/ 398).
[13] صحيح البخاري (2/ 116) باب العرض في الزكاة.
[14] فتح الباري (3/ 312).
[15] مجموع الفتاوى (25/ 79).
[16] مجموع الفتاوى (25/ 82).
Source link