كل تجارة كبيرة تحتاج إلى صبر وتعب ومشقة؛ فلا بد أن تعلم أيها الوالد، أو المربي، أن تربية الأولاد والعناية بهم في هذا الزمان من أشقِّ الأمور، وأصعبها، لكنها لا تشُقُّ على من علِمَ عاقبتها وأجرها، وعلى من يسَّرها الله تعالى عليه.
مقدمة ومدخل للموضوع:
أيها المسلمون عباد الله، إن من أعظم النِّعَمِ التي يُنْعِمُ الله تعالى بها على عباده: نعمةَ صلاح الأولاد؛ فبصلاحهم ينال الأبوين برُّهم، وطاعتهم، وإحسانهم ونفعهم في الدنيا، وأنْعِمْ به وأكرِم من برٍّ وطاعة وإحسان.
وما من صلاح وخير يقوم الأبوان بتربيتهم عليه، إلا وهو في ميزان حسناتهم يوم القيامة؛ لأن الولد من كسب وسَعْيِ أبويه.
كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 39 – 41].
فما يسجد سجدةً، ولا يقرأ حرفًا، ولا يسبح تسبيحةً، ولا يعمل معروفًا إلا وكان للوالدين من ذلك حظٌّ ونصيب.
فإذا مات الأبوان، يستمر نفعُ الأولاد لهما حتى بعد موتهما.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابنُ آدمَ، انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له».
وفي الحديث الصحيح: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته… وذكر منها: وولدًا صالحًا تركه».
بل يستمر نفعهم، ويجني الأبوان ثمار صلاح الأولاد حتى في الجنة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل لَتُرْفَعُ درجته في الجنة، فيقول: يا رب: أنَّى لي هذه؟! فيقول: باستغفار ولدك لك»؛ (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
ومعلوم أن كل تجارة كبيرة تحتاج إلى صبر وتعب ومشقة؛ فلا بد أن تعلم أيها الوالد، أو المربي، أن تربية الأولاد والعناية بهم في هذا الزمان من أشقِّ الأمور، وأصعبها، لكنها لا تشُقُّ على من علِمَ عاقبتها وأجرها، وعلى من يسَّرها الله تعالى عليه.
واعلم – أيها الوالد – أن هدايتهم بيد الله وحده، وأن ما علينا هو الاجتهاد بفعل الأسباب المشروعة فقط.
ولا بد أن يعلم الوالدان أن معاناة التربية نوع من الجهاد والطاعة، فما يلاقيانه فيها من الجهد والعناء لا يضيع عند الله تعالى.
ولهذا جاء عن بعض السلف: “إن من الذنوب ما لا يكفِّره إلا همُّ الأولاد”.
فإذا عرَف الإنسان هذا، هَانَ عليه الأمر، وعلِم أنه في عبادة يُؤجَر عليها، كما يُؤجَر على سائر العبادات.
وإليك – أيها الوالد – أهمَّ الأسباب لصلاح الأبناء؛ لعلها تكون سببًا وعونًا – بعد توفيق الله تعالى – لهداية وصلاح أبنائنا.
1- فأول هذه الأسباب، وأهمها: التزام الهَدْيِ النبوي في التعامل مع الصغار:
فالخير كل الخير في التأسي بهَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهَدْيُه خير الهدي، وسُنَّته أفضل السُّنن؛ فقد كان تعامله مع الصغار مبنيًّا على الشفقة والرحمة، وكان يعبِّر لهم عن ذلك بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك: الاهتمام بغرس التوحيد في قلوبهم، وتربيتهم على العقيدة الصحيحة، وتعليمهم أمورَ دينهم منذ الصغر؛ فهذا من أعظم أسباب صلاح الأبناء.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «يا غلامُ، إني أعلِّمك كلماتٍ: احفظِ الله يحفظْكَ، احفظِ الله تجدْهُ تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام، وجفَّت الصحف»؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع»؛ (رواه أبو داود، والترمذي).
ومن ذلك: إظهار محبتهم، وتقبيلهم، والاهتمام بهم.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار، لا يكلِّمني ولا أكلِّمه، حتى أتى سوق بني قَيْنُقاعَ، فجلس بفناء بيت فاطمةَ، فقال: أثَمَّ لُكَعُ، أثَمَّ لُكَعُ؛ يعني: الحسن، فجاء يشتد حتى عانقه وقبَّله، وقال: «اللهم إني أُحِبُّه، فأَحِبَّه، وأَحْبِبْ مَن يُحِبُّه».
قوله: (أثَمَّ) أي: أيوجد هناك في البيت؟ وقوله: (لُكَع)، ويقصد به: الصغير الذي لا يهتدي لمنطقٍ ولا غيره، وهذا حال الحسن رضي الله عنه.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قدِمَ ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتقبِّلون صبيانكم؟ فقال: «نعم»، قالوا: لكنا والله ما نُقَبِّل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو أمْلِكُ إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن الأقرع بن حابس أبْصَرَ النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الحسن، فقال: إن لي عشرةً من الولد ما قَبَّلتُ واحدًا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم».
ومن ذلك: التسليم عليهم، ومداعبتهم، وإدخال السرور عليهم.
عن أنس رضي الله عنه قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على غلمانٍ يلعبون، فسلَّم عليهم))؛ (رواه أبو داود، باب السلام على الصبيان).
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقال له أبو عُمَيرٍ، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعل النُّغَير؟)) قال أنس: “ما رأيت أحدًا كان أرحمَ بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم”، ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالصغار، أنه كان يزور الأنصار، ويسلِّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم، ويدعو لهم بالرزق والبركة.
ومن ذلك: تعويدهم على الصدق في التعامل معهم.
ففي سنن أبي داود عن عبدالله بن عامر رضي الله عنه قال: ((دَعَتْني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أُعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردتِ أن تُعطيَه؟ قالت: أعطيه تمرًا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إنكِ لو لم تُعْطيه شيئًا، كُتِبت عليكِ كذبة».
ومن ذلك: تعويدهم على أكل الحلال، والبعد عن الحرام.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أخَذَ الحسنُ بنُ علي رضي الله عنهما تمرةً من تَمْرِ الصدقة، فجعلها في فِيهِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كِخْ كِخْ؛ ليطرحها، ثم قال: أما شَعَرْتَ أنَّا لا نأكل الصدقة».
ومن ذلك: الحث على العدل بين الأولاد؛ فهو سبب لصلاح قلوبهم، وغرس المحبة بينهم.
ففي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: ((انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اشْهَدْ أني قد نَحَلْتُ النعمانَ كذا وكذا من مالي، فقال: أكلَّ بنيك قد نحلتَ مثلَ ما نحلت النعمان؟ قال: لا، قال: «فأشْهِدْ على هذا غيري، [ثم قال] : أيسُرُّك أن يكونوا إليك في البر سواءً؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا».
وفي رواية قال: «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم»، وفي لفظ: «فلا تُشْهِدْني إذًا؛ فإني لا أشهد على جَورٍ».
وعن أنس رضي الله عنه، قال: ((كان رجل جالس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه ابنٌ له فأخذه فقبَّله، ثم أجلسه في حجره، وجاءت ابنة له، فأخذها إلى جنبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا عدلتَ بينهما؛ يعني في تقبيلهما»؛ (رواه البزار، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
ومن ذلك: تصحيح الأخطاء بالرفق واللين والرحمة، بلا إهانة، ولا تجريح، ولا لوم، ولا توبيخ.
ففي الصحيحين عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه، قال: ((كنت غلامًا في حِجْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تَطِيش في الصَّحْفَةِ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلامُ، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك، قال: فما زالت تلك طعمتي بعدُ».
وفي الصحيحين عن أم قيس بنت محصن الأسدية رضي الله عنها: ((أنها أتَتْ بابنٍ لها صغير، لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجْلَسَه في حِجْرِه، فبَالَ على ثوبه، فدعا بماء فنضحه على ثوبه، ولم يغسله)).
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنَيْسُ، أذهبتَ حيث أمرتُك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب، يا رسول الله)).
بل حتى في الصلاة، يتحمل صلى الله عليه وسلم لعب الأطفال ولهوهم؛ مراعاةً لمشاعرهم.
فقد روى الإمام أحمد والنسائي عن عبدالله بن شداد، عن أبيه رضي الله عنه، قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وهو يحمل الحسن أو الحسين، فلما صلى أطال في إحدى سجداته، فلما قضى صلاته، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدةً قد أطَلْتُها، فظننَّا أنه قد حدث أمر، أو أنه يُوحى إليك، قال صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرِهت أن أُعْجِلَه حتى يقضيَ حاجته)).
2- ومن أهم أسباب صلاح الأبناء: صلاح الوالدين؛ فصلاحهم بإذن الله تعالى سبب لصلاح أبنائهم:
فإن المربي الناجح سواء كان أبًا أو أمًّا، أو معلمًا، يجب أن يكون قدوةً صالحة في نفسه، فكيف يرجو أن يُطاعَ ويكونَ لتوجيهه أثرٌ، وفعلُه يخالف قولَه؟!
وقد قال ربنا سبحانه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
فإن الأبناء يربطون بين توجيهات الوالد وتصرفاته؛ فإذا رأوه مثلًا يسب ويلعن، أو يكذب في معاملاته، فهل سيقبلون منه إذا نهاهم عن ذلك؟! وإذا رأوه متكاسلًا عن الصلاة، فهل سيقبلون منه إذا أمرهم بالصلاة؟! وإذا رأوه مدخنًا، فهل سيقبلون منه عندما ينهاهم ويزجرهم عن شرب الدخان؟!
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “إذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامَّتَه من قِبَلِ الآباء”.
ولهذا فإن من الحِكَمِ التي شُرِعت لأجلها صلاة النافلة في البيت، قالوا: حتى يتعلم الأولاد الصلاة عمليًّا من الوالدين.
في الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة».
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورًا».
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا».
فصلاح الوالدين، واستكثارهم من الطاعات، والاجتهاد في الخير – من أقوى أسباب صلاح الأبناء، ودفع الشرور عنهم، وحِفْظِ الله تعالى لهم حتى بعد موتهما.
كما قال الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]؛ قال بعض المفسرين: “فيه إشارة إلى أن تَقْوَى الأصول تحفظ الفروع”.
وكان سعيد بن المسيب رحمه الله يقول لابنه ناصحًا ومذكِّرًا: “إني لأزيد في صلاتي من أجلك؛ رجاءَ أن أُحْفَظَ فيك”.
بل ينتفع بصلاح الوالدين الأبناءُ والأحفادُ، والفروع مهما نزلوا.
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “حفِظهما الله بصلاح والدهما”.
قال ابن المنكدر رحمه الله: “إن الله لَيحفظ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولدِه والدُّويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر”.
3- ومن الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: الإكثار من الدعاء لهم بالهداية والصلاح:
فإن دعاء الوالدين له أثر كبير في صلاح الأبناء والبنات، وهو أحد ثلاث دعوات مستجابات.
ففي السنن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث دعوات يُستجاب لهن، لا شكَّ فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده»؛ (رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن).
ودعاء الوالدين لأولادهم – لا شكَّ – أنه أحرى وأولَى بالقَبول، وله تأثير على الأولاد حتى قبل ولادتهم.
فهذه امرأة عمران، كانت عقيمًا لا تُنْجِب، فنذرتْ إن هي حَمَلَتْ لتجعلَنَّ ولدَها مُحَرَّرًا لله تعالى، خالصًا لخدمة بيت المقدس؛ فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35].
فلما وضعَتْها أنثى وكانت ترغب بذَكَرٍ ليخدُمَ بيت الله؛ فقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
فاستجاب الله تعالى دعاءها، وبارك في ابنتها مريمَ، وحفِظها ورعاها، واصطفاها، وجعلها آيةً من آياته الكبرى؛ كما قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
ثم تأتيها البشارة من الملائكة بأن الله تعالى اصطفاها، ووهبها عيسى عليه السلام، وأعاذها وابنها من الشيطان الرجيم؛ كما قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45، 46].
ودعاء الآباء للأبناء منهج الرسل والأنبياء.
فهذا خليل الرحمن، يسأل ربه الولد الصالح فيقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، فيأتيه الجواب: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101].
وبعد أن رُزِقَ بالولد الصالح، لم ينقطع دعاؤه لأبنائه، فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].
وهذا نبي الله زكريا عليه السلام يسأل ربه أن يرزقه ولدًا صالحًا؛ فكان يقول: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 4 – 6]، وقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].
وقال الله تعالى في ذكر العبد الصالح: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان من هَدْيِه الدعاءُ لأبنائه وأحفاده، وأبناء أصحابه.
ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ضمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم علِّمه الكتاب»، وفي رواية: «اللهم فقِّهْهُ في الدين»؛ فأصبح ابن عباس رضي الله عنهما حَبْرَ الأمة، وتَرْجُمان القرآن.
وفي الصحيحين: قالت أم أنس رضي الله عنهما: يا رسول الله، خُوَيدِمُك أنس، ادعُ الله له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: «اللهم أكْثِرْ ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته»، قال أنس رضي الله عنه: فإني لَمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي: أنه دُفِن لصُلبي مَقْدَمَ حَجَّاج البصرة بضع وعشرون ومائة.
ولْيَحْذَرِ الوالدان كل الحذر من الدعاء عليهم بحُجَّة تخويفهم، أو ردعهم عن الخطأ، أو تعزيرًا لهم عند الوقوع في الخطأ.
ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خَدَمِكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعةَ نَيلٍ فيها عطاء، فيستجيب لكم».
وفى رواية: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم».
فكم من دعوة خرجت من أحد الأبوين، على أحد أبنائهم، فوافقت ساعة إجابة؛ فلربما كانت سببًا في فساده وهلاكه، نعوذ بالله من مَقْتِهِ وغضبه.
وعليك بالإكثار من الدعاء ولا تيأس؛ فالهداية من عند الله تعالى.
رُوِيَ عن معروف الكرخي رحمه الله: أنه كان يدعو لابنه عليٍّ قائلًا: “اللهم إني اجتهدت أن أؤدِّب عليًّا، فلم أقدر على تأديبه، فأدِّبْهُ أنت لي”، واستجاب الله له حتى أصبح ابنه عابدًا وَرِعًا تقيًّا.
ويقول أحدهم: كانت أمي تدعو لي حين تأمرني بالصلاة وتقول: قم للصلاة، ربي يكرمك، قم للصلاة، ربي لا يحرمك حلاوتها، قم للصلاة، ربنا يوفقك، قال: فأحببت الصلاة، وكنت أنتظر الصلوات لأسمع دعوات أمي، فكبرت وهي ما زالت تدعو لي، ووجدت نفسي أحب الصلاة.
وعليكم بدعاء الصالحين الأخيار، وصفوة عباد الله الأبرار: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
نسأل الله العظيم أن يَهَبَ لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن يجعلنا للمتقين إمامًا، وأن يوفقنا جميعًا للأخذ بأيديهم لِما فيه صلاحهم في العاجل والآجل.
______________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي
Source link