إن مؤمنًا يحافظ على الصلوات في يومه وليلته، ويحرص على شهود الجماعة حالَ يقظته، إنه ليرى نفسه قد اكتسب شيئًا عظيمًا، وربح ربحًا وافرًا
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
من إرادة الله بعبده الخيرَ أن يرزقه قلبًا حيًّا سليمًا، يألَف الحسنةَ فيدفعه إلى فعلها، ويأنف من السيئة فيكفّه عن اقترافها، وإنك لن تجد امرأً محسنًا في عبادة ربه، مستديمًا لعملٍ صالحٍ، إلا وهو حيُّ القلب، نقيُّ الصدر، قويُّ الإيمان، حريص على ما ينفعه، قريب من كل خيرٍ، ولن تلفي آخرَ قد اعتاد كبيرةً، أو هو مصرٌّ على صغيرةٍ، إلا وهو منكوس القلب، خرب الصدر، ضعيف الإيمان، له – مع ما يراه الناس – كبائرُ أخرى وصغائر لا ترى.
قال أحد السلف العارفين: إذا رأيتَ الرجل يعمل الحسنة، فاعلم أن لها عنده أخواتٍ، وإذا رأيته يعمل السيئة، فاعلم أن لها عنده أخواتٍ؛ فإن الحسنة تدلُّ على أختها، وإن السيئة تدل على أختها.
يقال هذا الكلام – أيها الموفَّقون – ونحن نرى قصورًا في شعيرةٍ عظيمةٍ، وإخلالاً بعبادةٍ جليلةٍ، هي جزءٌ من منظومةٍ متكاملة البنيان، لا ينفك جزءٌ منها عن آخر، ولا يبنى جانبٌ منها والآخر مهدومٌ، أما تلكم الشعيرة المقصَّر فيها، فهي صلاة الفجر، وأما تلكم المنظومة المترابطةُ الأجزاء، المتراصةُ اللبنات، فهي الصلوات الخمس، عمود الإسلام وأهم أركانه العملية، والفارقة بين المسلم والكافر، والمتميز بها المؤمنُ عن المنافق.
قال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام من عند الله – تبارك وتعالى – فقال: يا محمد، إن الله عز وجل قال لك: إني قد فرضتُ على أمَّتك خمس صلواتٍ؛ من وافاهن على وضوئهن ومواقيتهن وسجودهن، فإن له عندي بهن عهدًا أن أدخله بهن الجنة، ومن لقيني قد أنقص من ذلك شيئًا، فليس له عندي عهدٌ؛ إن شئتُ عذبته، وإن شئت رحمته»، وقال عليه الصلاة والسلام: «خمس صلواتٍ افترضهن الله – تعالى – من أحْسَنَ وضوءهن، وصلاَّهن لوقتهن، وأتمَّ ركوعهن وخشوعهن، كان له على الله عهدٌ أن يغفر له، ومن لم يفعل، فليس له على الله عهدٌ؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه».
ومع أن موضوع صلاة الفجر قد طُرِقَ كثيرًا ولَجَّ به الواعظون، وعالجه الخطباء وصاح به الناصحون، إلا أن بعض الناس لم يتنبَّه لهذه المسألة، ولم يكن له حظٌّ من النظر فيها؛ أعني: مسألة التقصير في الصلوات الأخرى غير صلاة الفجر، وما لهذا التقصير من الأثر السيئ على أداء صلاة الفجر نفسها، ذلكم أن للطاعة بركةً في الوقت، وقوةً في الجسد، وإعانةً على الخير، وأن من شؤم المعصية: الخذلانَ وعدم التوفيق.
وإنك لو نظرت إلى هؤلاء التاركين لصلاة الفجر بالكلية، أو الساهين عنها، المتأخرين عن جماعتها، لوجدت هذا ديدنهم في الصلوات الأخرى، ففي الوقت الذي يجهز عليهم النوم عند صلاة الفجر، فإن لهم من شهواتهم الأخرى ما يؤخِّرهم عن شهود بقية الصلوات، وإنك لو تتبَّعتَ سيرة هؤلاء لوجدتَ المانع لهم من المحافظة على الصلوات أعذارًا باردةً، ومتعلقاتٍ واهيةً، ومن ثم فقد خُذلوا عن شهود صلاة الفجر جزاءً وفاقًا، وما ربك بظلاَّمٍ للعبيد.
أيها المسلمون:
إن مؤمنًا يحافظ على الصلوات في يومه وليلته، ويحرص على شهود الجماعة حالَ يقظته، إنه ليرى نفسه قد اكتسب شيئًا عظيمًا، وربح ربحًا وافرًا، ومن ثم فلن ترضى نفسه أن يفرِّط في صلاةٍ واحدةٍ بشكلٍ يومي لعذر النوم، فيكون بذلك هلاكه، وعدم استقامة أمره، ومن جرَّب عرَف، ومن خَبَر صدَّق، فيا من تجدون في أنفسكم تكاسلاً عن صلاة الفجر، وتلمسون منها ضعفَ عزيمةٍ وتباطؤًا عن القيام، راقبوا الله في سائر صلواتكم، وأدُّوها على الوجه الذي يرضي ربَّكم، ولا تهونوا فتسقطوا من عين الله، ثم لا توفَّقوا، إنكم – والله – لن تطلبوا من الله عونًا فيخذلكم، ولن تلوذوا به فيخيب آمالكم.
كيف وقد قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]، وقال جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]؟! وقال في الآخرين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذَكَرَني، فإنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً».
نعم – أيها المسلمون – ذلكم هو ربكم الرؤوف الرحيم، لا يردُّ مَن وَفَدَ عليه، ولا يطرد من لجأ إليه، وأما من نَسِيَه وغفل عن ذِكره، فاسمعوا إلى نتيجة فعله، وشؤم معصيته؛ قال سبحانه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وقال جل وعلا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].
ألا فاتقوا الله عباد الله واصدقوا الله يصدقْكم؛ فقد ورد في الحديث الصحيح عن طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجدٍ ثائرَ الرأس، يُسمع دويُّ صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلواتٍ في اليوم والليلة»، قال: هل عليَّ غيرُهن؟ قال: «لا، إلاَّ أن تَطَّوَّع»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام شهر رمضان»، قال: هل علي غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»، قال: وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح الرجل إن صدق».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239].
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون:
كيف يَنتظر توفيقًا لصلاة الفجر، وإعانةً على أدائها مَن تكاسل عن الصلوات الأخرى ولم يجب داعيَ الله؟! لقد قال – سبحانه -: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، فمن استجاب لله إيمانًا به، وتصديقًا بوعده ووعيده، فهو الراشد الموفَّق المسدَّد، ومن لم يرفع بأمر ربِّه رأسًا، ونكص على عقبيه وتباطأ، فلا يلومَنَّ إلا نفسه إذا خُذل ولم يُهدَ ولم يرشد، إنها معادلةٌ بيِّنة المعطيات، واضحة الحدود، صحيحة النتائج، دقيقة الثمرات؛ فـ{مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، ومن رضي بالدون والهوان، فله الدون والهوان.
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيْهِ ♦♦♦ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلاَمُ
إن القلب مثل الصفحة البيضاء، إن تواردتْ عليه الحسنات، ازداد بياضًا وتألقًا، وكمل حبُّه للخير، وألف الطاعة وسهل عليه فعلها، وإن هو كسب السيئات، وأحاطت به الخطيئات، وأخَّر صاحبُه التوبة، وفرَّط في المجاهدة، لم ينتبه بعدُ إلا وقد اسودَّ وانتكس وزاغ.
مصداق ذلك ما رواه مسلمٌ عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُعرَض الفتنُ على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلبٍ أَنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السموات والأرض، والآخر أسودُ مُرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه».
ألا فاتقوا الله عباد الله واصبروا وصابروا، وخذوا الأمر بجد وعزيمةٍ ورابطوا، واستعيذوا بالله من العجز والكسل ولا تتهاونوا، وانتشلوا أنفسكم من أوحال النفاق، واتصفوا بصفات المتقين، وأقيموا الصلاة واركعوا مع الراكعين، وكونوا مع الله يكن معكم؛ {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
_________________________________
الكاتب:الشيخ عبدالله بن محمد البصري
Source link