منذ حوالي ساعة
الله أراد أن يعلِّم عباده المؤمنين أنه لا بُدَّ من اتخاذ السبب ولو كان ضعيفًا، أن الأسباب وحدها لا تحقق نصرًا، ولكن لا بُدَّ من فعل الأسباب، مع حسن اعتماد القلب على الله عز وجل.
إن الهجرة النبوية موقعٌ من مواقع التأمل في هذه المسيرة المباركة، إنها بحقٍّ تشريع للأمة ومَعْلَم من معالم دينها، ولقد كرَّر القرآن المجيد الحديث عن الهجرة، ومجَّد أهلها، وعطَّر حديثها، فهو حدث ليس ككل حدث؛ بل يحتاج منا إلى الوقوف عنده طويلًا والتأمل في دروسه ونتائجه كثيرًا؛ حتى تزداد العقول نورًا وإيمانًا وعطاءً، ومن أهم دروس الهجرة الأخذ بالأسباب، فلقد كانت الهجرة في ذاتها نوعًا من أرقى أنواع الأخذ بالأسباب؛ والأسباب: جمع سبب، وهو كلُّ شيءٍ يُتوصَّل به إلى غيره.
وسُنَّةُ الأخذ بالأسباب مقرَّرةٌ في الكون بصورةٍ واضحةٍ، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودع فيه من القوانين والسُّنن ما يضمن استقراره واستمراره، وجعل المسبِّبات مرتبطةً بالأسباب بعد إرادته تعالى، ولو شاء الله ربُّ العالمين لجعل كلَّ هذه الأشياء وغيرها -بقدرته المطلقة- غير محتاجةٍ إلى سببٍ، ولكن هكذا شاء الله تعالى وحكم، وهذا من أجل أن يوجِّه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السُّنَّة؛ ليستقيم سير الحياة على النَّحو الَّذي يريده سبحانه.
وإذا كانت سُنَّة الأخذ بالأسباب بارزةً في كون الله تعالى بصورةٍ واضحةٍ، فإنَّها كذلك مقرَّرةٌ في كتاب الله تعالى، ولقد وجَّه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السُّنَّة في كل شؤونهم الدُّنيويَّة والأخرويَّة على السَّواء، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
أحِبَّتي الكِرام، ومن تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن الأخذ بالأسباب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، فلقد مكث النبي بضع عشرة سنة بمكة وما حولها يدعو الناس إلى أصول الإيمان وعبادة الله، فآمن بدعوته من آمن وكفر من كفر، ولما ضاقت شعاب مكة به وبأصحابه، رأى أنه لا بد من البحث عن مكان جديد تنطلق منه الدعوة، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر –الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته أنه لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد، وأخفى شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثمًا؛ لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم، وأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يُبَيِّن إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ -يَعْنِي: عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ- قَالَ: «أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ»، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الصُّحْبَةَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: «قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ»؛ (رواه البخاري).
وكان الخروج ليلًا ومن باب خلفي في بيت أبي بكر، وانتقى شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شئون الهجرة، ووضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب الذي يجيد القيام به على أحسن وجه؛ ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته: فعلي-رضي الله عنه- ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تَمويهًا على المشركين وتخذيلًا لَهم، ويُسلِّم الودائع، وعبدالله بن أبي بكر، صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحرُّكات العدو؛ قالت عائشة – رضي الله عنها كما عند البخاري-: ثُم لَحِقَ رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم – وأبو بكر بغارٍ في جبل ثَوْر، فكَمُنَا (اختفَيا) فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر، وهو غلامٌ، شابٌّ، ثقفٌ (حاذق فطن)، لَقِنٌ (سريع الفهم)، فيدلج من عندهما بِسَحَر (قُبَيل الفجر)، فيصبح مع قريش بِمكَّة كبائتٍ، فلا يَسْمع أمرًا يُكتادان به إلَّا وعاه، حتَّى يأتيَهما بِخَبَرِ ذلك حين يختلط الظَّلام (تشتدُّ ظلمة الليل)؛ وهو دور الفتيان الأقوياء.
وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه؛ كيلا يتفرَّسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.
واتَّخَذ النبِيُّ -صلى الله عليه وسلَّم- عبدالله بن أريقط دليلًا عارفًا بالطريق برغم كونِه مشركًا، ما دام مؤتَمنًا، متقِنًا لعمله؛ ولذلك أرشدَهم -بِمهارته- إلى اتِّخاذ طريق غير الطريق المعهودة.
وأمَّا دور النِّساء، فهذه عائشة رضي الله عنها وأسماء حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثًا عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه؛ تقولُ عائشة -رضي الله عنها- متحدِّثة عن نفسها وأختها أسماء: فجهَّزْناهما أَحَثَّ الجَهازِ (أسرعه، والجَهاز: ما يُحتاج إليه في السَّفر)، وصنَعْنا لهما سُفْرة (الزَّاد الذي يُصْنع للمسافر) في جِراب (وعاء يُحْفَظ فيه الزاد ونَحْوه)، فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فربطَتْ به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيَت ذات النطاقين؛ (البخاري).
أيها المسلمون، كما سمعتم لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل حسب استطاعته وقدرته؛ ولكنه في الوقت نفسه يعلق قلبه بالله، فرغم الاحتياطات العالية، والأخذ بالأسباب في أحداث الهجرة؛ من السرية التامة، وتغيير الطريق، وإرسال المهاجرين دفعات، وترتيب الأدوار، وأخذ الحذر في كل خطوة، فإن المشركين قد عَلِموا بالأمر، وحرَّكوا الفرسان للحاق برَكْبِ المهاجرينِ، وكان من الممكن أن تمر الهجرة هكذا دون أن تحاط بالأخطار، وخصوصًا بعد أخْذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب، ولكن الله أراد أن يعلِّم عباده المؤمنين أن الأسباب وحدها لا تحقق نصرًا، وأن العبد يُحرَم التوفيق إذا لم يعتمد على مسبِّب الأسباب ومسخِّرها؛ لذا انكشف أمر الهجرة، وحانتْ معية الله التي لا يَخِيب معها أحد، فمَنِ الذي منع المشركين من أن يَعْثروا على النبِيِّ -صلى الله عليه وسلَّم- وصاحبه؟ وقد وقَفوا على شفير الغار، حتَّى قال أبو بكر: لو أنَّ أحدهم نظر تَحْت قدمَيْه لأبصرنا! إنه الله؛ ولذلك كان جواب الرسول -صلى الله عليه وسلَّم-: «ما ظَنُّك يا أبا بكر باثْنَيْن اللهُ ثالثُهما»؟؛ (البخاري).
أخي، هل تدبرت هذه اللفظة النبوية في التعبير عن معية رب البرية اثنين الله ثالثهما اثنين الله ثالثهما، إذًا فلتخرج مكة كلها بخيلها ورجلها، برجالها ونسائها وأطفالها، بشيوخها وشبابها، بل لتخرج الدنيا بأسرها لتبحث عن محمد وصاحبه، فوالله لو قلبوا رمال الصحراء حبةً حبةً فلن يصلوا أبدًا إلى اثنين الله ثالثهما؛ يقول الله تعالى كما في سورة التوبة: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
وهكذا يؤكِّد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب مع اعتماد القلب على الله في كلِّ الأمور، والأحوال، وإن من تأمَّل القرآن يجد أن الله تعالى يُعلِّمنا أن نتخذ الأسباب وإن كانت في نفسها ضعيفة، قد لا يتصور أن تكون لها نتيجة.
فهذا أيوب عليه السلام لما اشتدَّ به المرض دعا الله تعالى فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84].
استجاب الله دعاءه، لكن أمره باتخاذ الأسباب حتى وهو في حالة ضعف ومرض، وهو القادر سبحانه على أن يَشفيه ولو بدون اتخاذه لأيِّ سبب، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، لكنه لا يريد من عباده أن يتربوا على الخمول والكسل والتواكل وترك العمل، فقال تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، وهل ضربة الصحيح للأرض منبعة للماء؟ لا، فكيف بمَنْ هو مريض كأيوب عليه السلام؟ ولكن الله يريد أن يعلمنا أنه لا بُدَّ من اتخاذ السبب ولو كان ضعيفًا، فالأمر أمره، والكون كونه، ولكن لا بُدَّ من فعل الأسباب، مع حسن اعتماد القلب على الله عز وجل.
وهذه مريم عليها السلام، لما كانت في حالة مخاض عند ولادتها لعيسى عليه السلام، وهي في حالة وهَن وضعف، واحتاجت إلى طعام- طُلب منها أن تباشر الأسباب، وهي في أشدِّ حالات ضعفها؛ قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] مع ظهور أن فعل هذا السبب لا يأتي بالثمر، لضعفها وقوة الجذع، ولكنه ترسيخٌ لمبدأ أن التوكُّل الحقيقي يقتضي منا أن نأخذ بالأسباب، وأن التَّوكُّل على الله تعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب؛ فالمؤمن يتَّخذ الأسباب من باب الإيمان بالله، وطاعته فيما يأمر به من اتِّخاذها، ولكنَّه لا يجعل الأسباب هي الَّتي تنشئ النَّتائج، فيتوكَّل عليها؛ فإنَّ الَّذي ينشئ النَّتائج -كما ينشئ الأسباب- هو الله، ولا علاقة بين السَّبب والنَّتيجة في شعور المؤمن.. فاتِّخاذ السَّبب عبادةٌ بالطاعة، وتحقُّق النتيجة قدَرٌ من الله مستقلٌّ عن السَّبب، لا يقدر عليه إلا الله، وبذلك يتحرَّر شعور المؤمن من التعبُّد للأسباب والتَّعلُّق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاعته؛ لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
فالناس مع سنة الأخذ بالأسباب طرفان ووسط، فهم بين مبالغ في الأخذ بالأسباب فيعتمد عليها اعتمادًا كليًّا، فإذا حزبه أمرٌ طرق كل الأبواب، وسعى في جميع الأسباب، ونسي قدرة الله تعالى والاعتماد عليه، وأن الأمور كلها بيده، فيسعى يمينًا وشمالًا، ويذهب إلى هذا وذاك، ويقلب عينيه في كتب الطب والعلوم، ويطرق باب كل طبيب ليداوي علته، وينسى بابًا لا يغلق دون طلب الطالبين، ولا دعاء المضطرين، وهو باب الله تعالى الذي يحكم فلا مُعقِّب لحكمه.
والطرف الآخر يترك السبب بالكلية، فلا يسعى لرزق، ولا يسير في مناكب الأرض؛ بل ينتظر أن تنشق السماء عن رزقه، فينهال عليه كمطر الشتاء، أو كحَرِّ المصيف، تمامًا كمن يتمنَّى الولد بغير زواج، أو يسعى للشبع بغير طعام، أو لقتال العدو بغير سلاح، ويسمون أنفسهم المتوكلين، بل هم متواكلون اتِّكاليون، يبررون لقعودهم وتقاعسهم عن العمل بالتوكُّل والاعتماد على الله، في حين أنهم مُقصِّرون في الأخذ بالأسباب.
فكلا الطرفين مذموم، فالأول نسي الخالق المدبِّر وأعرض عنه وركن إلى السبب، فوقع في شرك الأسباب، والآخر نسي الأسباب بالكلية وأعرض عنها على الرغم من الأمر الشرعي بالأخذ بها والموازنة بينها وبين الاعتماد واللجوء إلى الله تعالى، فأنَّى له الرزق أو النصر؟!
أمَّا الوسط فهو صرف القلب إلى الله تعالى بصدق اللجوء إليه، والاعتماد عليه، وتمام التعلُّق به وبحوله وطوله، مع بذل الأسباب المؤدية إلى المأمول، فهما ركنان ينبغي ألَّا يغفل أيًّا منهما: تعلق القلب بالله، وبذل الأسباب، فمن تَرَك الأسباب فقد سلك طريق العجْز والكسل، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا في أحاديث كثيرةٍ ضرورة الأخذ بالأسباب مع التَّوكُّل على الله تعالى كما نَبَّهَ -عليه الصَّلاة والسَّلام- على عدم تعارضهما؛ فعن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه-: أنَّ رجلًا وقف بناقته على باب المسجد، وهمَّ بالدُّخول، فقال: يا رسول الله، أُرسِلُ راحلتي، وأتوكَّل؟ وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التَّوكُّل على الله تعالى فوجَّهه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى أنَّ مباشرة الأسباب أمرٌ مطلوبٌ، ولا ينافي بحالٍ من الأحوال التَّوكُّل على الله تعالى ما صدقت النِّيَّة في الأخذ بالأسباب، فقال له صلى الله عليه وسلم: [بل قيِّدها وتوكَّل]؛ مستدرك الحاكم، وفي لفظ: «اعقلها وتوكَّل»؛ (رواه الترمذي).
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لو أنكم توكَّلتم على الله حـقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزق الطَّير، تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا»؛ (الترمذي، وابن ماجه).
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يُلقي حَبَّه في الأرض، ويتوكل على الله، وهو الذي قال رضي الله عنه: لا يقعدن أحدكم في المسجد يقول: الله يرزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
فالفلاح يحرث الأرض ويزرعها، لكنها تنبت بإذن مَنْ؟ وبإرادة مَنْ؟ تنبت بإذن الله وبإرادة الله، وتثمر بإذن الله وبإرادة الله، ولولا إرادته ما أنبتت ولا أثمرت، وهذا ما أرشد إليه سبحانه وتعالى فقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 63 – 67].
والجائع يبحث عن الطعام، والظمآن يبحث عن الشراب، والمريض يبحث عن الشفاء، وكل ذي حاجة يبحث عن حاجته، وهذه مجرد أسباب، لكن الذي بيده ذلك كله هو الله، قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 77 – 82].
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
Source link