وقفة مع وسائل التواصل الاجتماعي

منذ حوالي ساعة

يؤسفني أن تصبح تلك العوالم الافتراضية حياتنا الأصلية وشغلنا الشاغل، أخذتنا لمتاهات ومجرات خيالية، وعوالم غريبة ظاهرها الجمال واللطف وربما كان في باطنها القبح

رائعة هي العربية، ورائع ما فيها من مجازات، ومجاراة لكل جديد ومستحدث طارئ ومستقدم مفاجئ، فما استعصى على مفرداتها الوفيرة وعباراتها القديرة مواكبة كل حديث وملاحقة كل آتٍ؛ ليصدق حدْسُ شاعر النيل حافظ إبراهيم حين أنشد بثقة العربي النَّبيه:

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ  **  وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعــــــــــــاتِ 

أنا البحر في أحشائه الدُّرُّ كامــــن  **  فهل سائلوا الغواص عن صدفاتي 

 

 

وهذا اللسان العربي الذي أعطى كل مسمًى حقه، وواكب مفاد أغراضه – قد علَّم العرب وأرباب المعاجم في الحداثة والقِدم أصول استخدام المفردات المناسب والملائم؛ حتى يقطع على أصحاب النفوس المريبة فرصة التشكيك والتدقيق في صياغة أرقى المفردات لمخاطبة الذات الإنسانية؛ ليقرَّ الجميع حينها بأنها العربية حين تتحدث عن نفسها.

 

ولا ننكر أن النهضة التقنية التي صارت بمنزلة القفزات السريعة عبر قمم الجبال – تقدَّمت وبشكل سريع في الآونة الأخيرة، يمسي الناس على حال ويصبحون على حال آخر، وطفرات لم يسبق لها مثيل تحدث كل يوم، وكأن تقنية الاتصالات لم تعد بمستقرٍّ آمن كما كانت من قبلُ؛ إذ ظل الناس فترات طويلة بحمام الزاجل والرسائل على محمل الركاب وعبر البريد العادي، حتى خرج علينا (راي توملينسون المبرمج الأمريكي) وهو مبتكر الرسائل الإلكترونية، ومخترع البريد الإلكتروني، وتجدر الإشارة إلى أنه تخرج في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا عام 1965م، ثم عمل مع فريق شركة (بي بي أن) في ولاية ماساشوستس، علمًا بأنه اخترع البريد الإلكتروني عن طريق المصادفة، ولم يكن مخططًا له كبقية اختراعاته؛ حيث أرسل (راي توملينسون) رسالةً إلكترونيةً إلى نفسه في شهر يوليو من عام 1971م، وقد وصلت رسالته إلى العنوان الذي حدَّده لها على الفور، علمًا بأنه لا يذكر من محتوى الرسالة شيئًا سوى أنها كانت تجميعًا لأحرف كتبها بصورة عشوائية[1].

 

ومن حينها وتقنية الاتصالات لم تعد ذلك المكمل الغذائي للنفس البشرية في التواصل والاتصال فحسب، بل أصبحت طريقة مثلى متغيرة سريعة التطور للعرض والتداول والترويج للسلع والبضائع، وابتعاث الأخبار واستقبالها في وقت لا يكاد يُذكر؛ لكونها أقل تكلفة للوقت والجهد والمال، ومن هنا يطغى سؤال كاشف وتتضح نية مبيتة: ما غرض الكاتب إذًا من هذا السرد الذي تصدر المقال؟ ثم ما غرض تلك الإفادة المعتادة لكل من تكلم في شأن التقنيات الحديثة وآثارها على المجتمع لا سيما العربي موضوع البحث والدراسة؟

 

نقول بعد الحمد والثناء على رب الأرض والسماء، والصلاة الدائمة على معلم البشرية الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:

• إن تقنيات العصر الحديث التي تقدمت بشكل مذهل ومخيف قد واكبت شخصية مغايرة تمامًا لِما كانت عليه الشخصية العربية من قبل، وهذا الكلام ليس بالمطلق الغالب قدر ما هو بالنسبي الطاغي، وكثير منا يدرك ذلك ولا يكذبه، فهذا الأنموذج في كل بيت، ومن منا ليس له حسابات على عديد من منصات التواصل الاجتماعي؟ وربما أكثر من حساب على المنصة الواحدة كالفيس بوك، والإنستجرام، والواتساب إلى غير ذلك من كل جديد طارئ وَجَدَ شغفًا ولهفة من الناس في الحصول عليه، وعلى تقنياته المتقدمة التي أذهلت البشرية، وطوت المسافات والقارات.

 

• وماذا بعد أيها السارد؟ طال بنا المقام وتجرنا وراءك لسطور ومعلومات نحن أسبق إليها منك، وأعلم بها وبوسائطها عنك، فماذا تريد أن تقول؟ أنتم يا شباب اليوم ورجالات الغد العربي أعلم بما أريد أن أقول، وبرغم ذلك سوف أصرح بما يضيق به صدري ولْيَبُحْ به لساني:

• يؤسفني أن تصبح تلك العوالم الافتراضية حياتنا الأصلية وشغلنا الشاغل، أخذتنا لمتاهات ومجرات خيالية، وعوالم غريبة ظاهرها الجمال واللطف وربما كان في باطنها القبح، فمن عبث وكذب وتضليل وإرهاص لمجد زائف، مواد البناء فيه علامات الإعجاب والمشاركات والتعليقات، ونحن سامدون لا نحرك قدمًا ولا نشعل نارًا غير نيران التواصل، التي قد تحرق أكبادًا وتضلل عبادًا ليسوا لنا بكارهين، فضلًا عن التشهير والترويج للشائعات قبل أن يثبت كذبها من صدقها، وسوء مقصدها من مغزى نشرها.

 

• لقد صارت تلك المنصات – على رقتها وهوانها كخيوط العنكبوت – صلدة جامدة مانعة للتواصل المجتمعي داخل القرية الواحدة، ولا أبالغ إذا قلت بأن الكثير من تلك الصداقات الافتراضية من شتى الأقطار والأمصار لا تشفع ولا تنفع وقت العوز لها.

 

• وعلى مستوى العلاقات الأسرية والإنسانية والمجتمعية، فقد بَرَّدت تلك العلاقات برودًا، وأتلفت ما بين الأرحام من وشائج قوية لها حق الصلة والواجب والتواصل الفعلي لا مجرد الإعجابات والمشاركات، كم شاهدنا من صور لمن يزور أقاربه من بنين وحفدة، وقد استأثر كل واحد منهم بجهازه ينظر فيه يخاطب هذا ويحدث ذاك، وكأنهم في سفر روحي بعيد وجسوم حاضرة بغير داعٍ! وعلى المستوي العام، لو تطرقنا لما تبثُّه وتنفث فيه تلك المواقع من فِتَنٍ، لَما أسعفتنا صفحات وصفحات، حفظ الله بلاد المسلمين والعرب من كل مكروه وسوء.

 

• إن تلك المنصات – على رخصها وهوان تكلفتها – قد أتاحت لصانعها مكاسب عديدة لها وأغراضًا خفية هي أخطر ما في القضية وأشدها قسوة، فصنعت جدران الجَفْوةِ بعدما اتسعت هُوَّةُ الفجوة، ورسخت لفكرة التباعد والانفراد لدى البعض، ولا نقطع بأضرارها على حساب منافعها، ونقرُّ بعديد من نفعها وإنجازها للوقت والجهد، وما نرى في الآلة أو التقنية من عيب، لكنَّ بعض المستخدمين هم المخطئون؛ إذ لم يراعوا آدابًا اجتماعية وفضائل إنسانية لها حق التنفيذ والتقديم.

 

• إن الوقت المهدر في الجُثوِّ على تلك المنصات، والغيبوبة الروحية والعقلية – لكفيل بأن يضيَّع أجيالًا، ويضل عيالًا ما زالوا في مسيس الحاجة إلى محاكاة الوجوه، ومناظرة الإيماءات على اختلاف الأغراض والمقاصد، وليست تلك هي المرة الأولى التي أتعرض فيها لمثل تلك القضايا المزعجة؛ مخافة تقليص العلاقات الإنسانية والأسرية، بل شرفت بأن نُشر لي بشبكة الألوكة مقالًا بعنوان (مزرعة سعيدة وتلميذ بليد): “إن الكارثة – وعفوًا في اللفظ فهي بحق كارثة – حينما يجلس الآباء والأبناء بالساعات أمام شاشات الحاسوب؛ لكي يتمتَّعوا بتلك اللُّعبة التي هي بحق شائقة جدًّا، ولكنَّ القاعدة الفقهية تقول بأن درء الضرر مقدَّم على جلب المنفعة، فلنتقِ الله في تلك النعمة التي حذَّرنا رسولُنا وقدوتُنا معلِّم الإنسانية الأول صلى الله عليه وسلم من إضاعتها وإهدارها”[2].

 

ولقد ناشدت فيها العقول والأفئدة بألَّا تصنع تلك الألعاب “الإلكترونية” من بيننا أجيالًا كأبطال الورق، أُسودٌ على الشاشات، فإذا نزلوا بساحة الجدِّ فروا فِرارَ الشياهِ من أنياب الثعالب والذئاب، فضلًا عما أكدته الدراسات الطبية بأن من أسباب مرض “التوحد” من عمر الطفولة البقاء المستمر والدائم لشاشات الهواتف بكثرة؛ ما يسبب نوعًا من الانعزالية للطفل.

 

وفي مقالي الذى نُشر بعنوان “النشر التقني في الميزان”، ومن أول فقرة بالمقال – تناولت بحيادية تامة منافع كل تقنية منهما، وأيهما أشد إنجازًا وأبقى وكانت الغلبة سجالًا بين النوعين من النشر؛ حتى لا يقول الناس أني أريد بهم تراجعًا أو مقاطعة لروح العصر: “بداية دعونا نتفق على ألا نختلف أن لكل مستحدَث في العلم مائزة تميِّزه، وجائزة تُجيزه، وأيضًا عائبة تعيبه، ولربما كانت العيوب من فرط جهل المستخدمين، أو من عدم القناعة بأن لكل جديد مخاطره التي تستدعي إظهار التحفظات والواجبات حين الأخذ به، وليس إنصافًا أن نذكر ونُفنِّد العيوب قبل سرد بعض المزايا، ولا أريد أن أقول (عيوبًا) بالمعنى المفهوم الواصل إلينا، فلو أننا تتبَّعنا ما يجب على الناشر الأخذ به، لَصَارَ النشر التقني في الصدارة لا تعيبه عائبة”[3].

 

• إن روح ذلك العصر تستدعي منا تمكينًا لعقيدتنا السمحة وديننا القويم بما يحملان من قيم ومبادئ؛ لتقنين استخداماتنا لتلك المنصات، فلا نجعلها الحاضرة الحاكمة على شتى أمور حياتنا وتعاملاتنا، ودعمًا لما أكتب ما نُشر أيضًا عن الأمانة كمعيار يجب الاتفاق عليه في نقل الأخبار والتثبت من مصداقيتها؛ حتى لا نحيف على الغير ونحترم الخصوصيات: “وبعد ذيوع وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي غزت بيوتنا، وصنعت الفواصل أكثر من التواصل، وأصبحت أجهزة الحواسب على اختلاف التقنيات والمسميات – ترويجها للفتن أكبر، وشيوع الكاذبات من الأنباء أكثر، وأصبح مَن هم من خارج التخصص كثرة، لا يرعوي الواحد منهم أن يطلق شائعة، أو أن يلفِّق كذبة، فيثير الفتن، ولو أنه كفَّ قلمه وأنامله التي أدمنت لوحة المفاتيح والنشر والإشارة والمشاركة لِمَا لم يتثبت منه، لكان خيرًا له.

 

فيا أيها الشباب العربي ممن بلغوا سن الرشد عمرًا وعقلًا، تحرَّوا الصدقَ فيما تكتبون وتنقلون، ولا يحملنَّكم الولاء لفصيل أن ترجُموا بالحجارة مَن تكرهون، إنكم لن تضروهم قدر ما تضرون مجتمعكم، وإن من باب الأمانة والإيمان أن تصمتوا وقت أن تستدعي الحالة صمتًا، وإذا تكلمتم أن تكونوا منصفين، وارتقوا في الأسباب، واعلموا أن الشاعر العربي قد أصاب موضعًا من حكمة حين قال:

وما من كاتب إلا سَيَفْنى *** ويبقى الدهرَ ما كتبت يداه[4]

 

وختامًا وليس بآخر، فإن  «الكيِّس من دان نفسه، وعمِل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها»؛ كما قال معلم البشرية صلى الله عليه وسلم، والله من وراء القصد.

 


[1] موقع (موضوع).

[2] شبكة الألوكة، “مزرعة سعيدة وتلميذ بليد”؛ محمد صادق عبدالعال.

[3] شبكة الألوكة، “النشر التقني في الميزان”، محمد صادق عبدالعال.

[4] شبكة الألوكة، “المعيارية الغائبة عن الأقلام الكاتبة”، محمد صادق عبدالعال.

___________________________________________________________
الكاتب: محمد صادق عبدالعال


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *