مقياس التعامل مع الآخر – أمين أمكاح

يُعلم بداهة أن التعامل مع الآخر شيء ضروري في حياة الإنسان، وطرف أساس في تصرفات الإنسان، وبالخصوص التي تكون بينه وبين أفراد نوعه الإنساني…

يُعلم بداهة أن التعامل مع الآخر شيء ضروري في حياة الإنسان، وطرف أساس في تصرفات الإنسان، وبالخصوص التي تكون بينه وبين أفراد نوعه الإنساني، فالمرء سواء أكان في بيته، أو في موقع عمله: الإدارة التي تدير وظيفته، أو المؤسسة التي ينتمي إليها، أو كان في المتجر الذي يشتري منه، أو الشارع الذي يستعمله في حركة تنقُّله، أو أي مكان آخر، فهو يحتكُّ بالآخر ويتفاعل معه سلوكيًّا وَفْق تعامل معين ينبغي بالأساس أن يكون حسنًا، وألَّا يخرج عن نطاقه القويم المبني على الحق والخير والصلاح والفضيلة.

 

إن واقع الحال يُظهر وجود خلل قِيمي كبير في السلوك الإنساني نظرًا لسيادة الانتهازية والمادية في تصرفات الإنسان المعاصرة، وحدوث ذلك دافع قوي للبحث عن مدخل إصلاحي فعَّال لهذه المعضلة السلوكية، من خلال إيجاد مقياس ضابط للتعامل مع الآخر، بحيث يكون لنا ضمانًا لسلامة التصرفات الصادرة منا من أي انحراف أخلاقي، وليس هنالك أفضل من النظر للمصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي يعد أعظم الناس بحُسن تعامله مع الآخر كيفما كان، وقد شهد له العدوُّ قبل الصديق والبعيد قبل القريب، والمقياس المثالي للتعامل مع الآخر لا يمكن أن يخرج عن التوجُّه النبوي؛ لذا استوحيت من نظره ذلك المقياس المتمثِّل في المبدأ التساؤلي الآتي: “أترضاه لنفسك؟”، على المرء أن يسأل نفسه قبل أن يصدر أي سلوك تجاه الآخر: هل هذا التصرف الذي سيصدر مني سأقبله إن عومِلت به من طرف غيري؟ ولتقديم تصور واضح وشامل عن هذا الموضوع، ينبغي الإجابة عن التساؤل الرئيسي: لماذا بالذات تَم اعتماد هذا المقياس التعاملي دون غيره؟

 

إن اختيار هذا المقياس في التعامل مع الآخر، سيضمن لنا بنسبة كبيرة الوقوف في صفِّ القِيَم الأخلاقية التي تنتصر للحق، وتُسهم في نشر الخير، والمحافظة على الموقف الرافض لتأييد الباطل وممارسته المؤدية إلى اقتراف مساوئ كثيرة في حق الآخرين، كما أن التعامل المبني على المقياس المقترح سيُجنِّبنا الوقوع في التعامل البراغماتي أو الدبلوماسي اللذين لا تجمعهما أية صلة بالأخلاق الحسنة؛ لأنهما من الأنماط السلوكية القائمة على المنفعة المتلونة بالنرجسية، ولا يربطها أي شيء بالتصرُّف الإنساني النبيل الذي ينبني على الصدق والمصداقية، ولا دخل للفطنة والدهاء في ذلك؛ لكونها تصنف ضمن النفاق والخداع الذي يقوم على الأطماع الذاتية والمكاسب الشخصية.

 

وبلا أدنى ترديد يبقى التبايُن في التعامُل البشري أمرًا واقعًا لا مفرَّ منه، فكل واحد وما يميل إليه طبعُه وتصرُّفُه من حُسنٍ وقباحة، فيتمايز الناس هنا بين الصالح والطالح، ولعل عدم الوضوح في التعامُل مع الآخر سواء بالتلوُّن والظهور بأكثر من وجه، أو بغير ذلك من الأمور التي تحجم حقيقة التعامُل الصادر من الغير، ورغم غلبة المكر والخداع في مثل ذلك، إلا أنه من غير الممكن أن تدوم الأشياء الزائفة، وانكشاف حقيقة الأمر واقع لا مفر منه؛ فالباطل زاهق وإن طال أمدُ حياته، والبناء الذي يقوم على أساس هشٍّ جدًّا سيُهدَم لا محالة.

 

ولا يختلف إنسان في أن فساد وتشتُّت العلاقات البشرية، يحدث بالأساس نتيجة تراكم مجموعة من التصرفات السيئة والمواقف السلبية التي تكون بفعل سوء التعامُل مع الآخر، وبناءً على ذلك فالتصرف الحَسَن يقوي الروابط الإنسانية، ويُذيب النقائص كما يذيب الماء الجليد، والتصرف السيئ يفسدها كما يفسد الخل العسل.

 

ويبقى التعامل المبني على الاحترام هو الأقوى صلابة والأكثر صوابًا، فبه تحظى تصرفات المرء بكثير من النبل، سواء كان ذلك مع الجار، أو الحارس، أو عامل النظافة، أو البقال، أو رئيس الشركة، أو المدير؛ أي: إن التعامل مع الجميع ينبغي أن يكون قائمًا على الاحترام رغم اختلاف المكانة المجتمعية لكل واحد، ومن الأمور المرفوضة أخلاقيًّا ارتباط التعامل مع الآخر بالحاجة الشخصية؛ فيتملَّق ويتزلَّف لمن فيه النفع والمصلحة الذي ينتج عنه أخذ أحادي خالٍ من أي حسٍّ إنساني سويٍّ، في حين أن الإنسان الذي لا حاجة عنده يتعامل معه بشكل سلبي نظرًا لانعدام الاستفادة منه.

 

لا يخفى على أحد اليوم حقيقة اقتران كل إنسان بنوع من العيوب والنقائص؛ لكن ذلك لا يدفع المرء ليقع رهينًا لها، ومحافظة الفرد على طبيعته بعيدًا عن التكلف والتصنُّع من أهم الأمور المطلوبة أخلاقيًّا؛ وبذلك يحرص دائمًا الإنسان السويُّ على عدم فِقدان الاتزان الأخلاقي؛ لذا يلزم عليه أن يسأل نفسه باستمرار قبل أي تعامل: هل سأرضى بما سأفعله مع غيري لو فعل معي نفسَ الشيء؟

وهذا بالذات على عكس ما يمكن أن يعتقده البعض على أن المقياس التعاملي المقترح من بين الأمور التي تقتل كل ما له ارتباط بالعفوية والتلقائية في التعامل؛ لكونه في مقام المصفاة التي تزيل كل تصرف مزيف مبني على التدليس والادِّعاء بما ليس في المرء، ومن غير الطبيعي أن يرتدي المرء ثوبًا لا يتوافق مع شكل جسمه طولًا وعرضًا.

 

إن التعامل الحسن مع الآخر ناجم عن التوفُّر على مجموعة من القيم السامية المبنية على العطاء النبيل، والأخذ الإنساني الراقي القائم على التعايش السلمي، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه دون إفراط أو تفريط، بعيدًا عن أي تعامل فظٍّ أجوف غليظ، تجنبًا لقطع روابط العلاقات الإنسانية، وحرصًا على عدم ظلم الآخرين.

 

ومن المؤكد أن التعامل البشري الجيد لا يأتي هكذا دون توفير مناخ صالح له، وهذا بالذات يفرض معرفة أمور لازمة الحضور؛ ليحصل التعامُل الجيد مع الآخر، ومن أهم تلك الأمور:

♦ حياة الآخر وقراراته الخاصة لا تخصُّك، لكن من الواجب الإنساني احترام قناعات غيرك وظروفه، هذا هو التصرف والسلوك الحضاري الذي يجب أن يسلك مع الجميع.

 

♦ معاملتك الحسنة لغيرك لا يُرجى منها أن يعاملك الآخر بالمثل، بقدر ما يجب أن تكون ميزة وفضيلة تخصُّك ونابعة مما تحمله من قيم إنسانية نبيلة، بعيدًا عن انتظار المعاملة المماثلة التي عاملت بها غيرك.

 

♦ يعامل الآخر بما يظهره لك، أما الباطن فدَعْه للخالق؛ ولكن هذا ليس داعيًا لتصديق كل ما قيل لك، واعتبار أن كل ما تم معاملتك به هو الحقيقي.

 

♦ ليس كل من يتبجَّح بالأخلاق النبيلة يتبنَّاها في تعامله مع الآخر، فلا يمكن تصديق الأقوال في ظل عدم تطابقها مع الأفعال، فالأخلاق وجدت بالأساس لتُطبَّق كواقع في سلوك الإنسان؛ لا لتكون مجرد شيء يُتغنَّى به.

 

يحمل القرآن الكريم أمثلة كثيرة للتعامل الحَسَن مع الآخر، كما أنه لم يقتصر على مخاطبة البشرية جمعاء بخطاب موحد؛ بل أفرد خطابًا خاصًّا لكل صنف بشري تعامل معه وتناولته آياته الحكيمة، وهذا كافٍ ليكون من أهم الدوافع التي تُحرِّك الإنسان المسلم إلى حسن التعامل مع الآخرين كيفما كانوا، والتصرف مع كل واحد بتصرف خاص، وهذا لا يتعارض مع المبدأ التساؤلي: “أترضاه لنفسك؟”؛ إذ لا يمكن أن يخرج التعامل الحسن مع الآخر عن المقياس الذي تَمَّ اقتراحه.

 

ومن السذاجة أن يُعامل الناس جميعًا بنفس المعاملة، فهذا لا يستقيم؛ لأن لكل واحد ما يلائمه ويتناسب معه، فما يمكن أن تتعامل به مع هذا لا يصلح أن تتعامل به مع غيره؛ لذا ينبغي أن يتصرف مع الخلق، كلٌّ على قَدْره الذي تتداخل فيه أمور كثيرة، أهمها مُراعاة أحوال من يتعامل معهم مع إنزال كل فرد منزلته، وقد يعرف ما تَم ذكره للقرب من الشخص المتعامل معه، وقد يجهل للبُعْد عنه.

 

لذلك فأهم ما أشدد عليه هنا هو العمل على تنزيل هذا المقترح النموذجي في أرض الواقع، وبالخصوص في المؤسسات التربوية التي عليها تبنِّي هذا المقياس وتقديمه للمنتمين إليها في قالب النموذج الأقوم للتعامل مع الآخر، ولا يمكن تبنِّي هذا المقياس في البعد العملي تربويًّا دون التدريب على التطبيق الفعلي في مجموعة من المواقف التي يمكن إخضاع ووضع الآخر فيها، وبطبيعة الحال هذا لا يكفي؛ بل يلزم أيضًا التوفُّر على آداب التعامل مع الغير.

 

وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن المقصود من هذا الحديث كله، هو الوصول إلى التطبيق العملي لذلك المقياس المطروح في التعامل مع الآخر، ولا يمكن إغفال أن المرء في حاجة دائمة إلى تطوير ذاتي لإمكانياته ومهاراته وقدراته، وهذا لا يأتي طواعية؛ بل يتطلَّب مجاهدة النفس التي تميل للاكتفاء بما عندها تجنُّبًا للتعب والجهد الناجم عن التغيير الذاتي.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *