سئمت المعاصي والذنوب – خالد عبد المنعم الرفاعي

منذ حوالي ساعة

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:

فإن الناظر في الشريعة المكرمة قرآنا وسنة، وتتبع ما الآثار الثابتة عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، تيقن أن كل من تاب لله توبة نصوحًا، واجتمعت فيه شروط التوبة الصادقة من الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم معاودته، والندم على فعله:- يقطع بقبول توبته تفضلا من الله ورحمة؛ لأن المغفرة من وعد الله والله لا يخلف الميعاد؛ قال الله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}[الشورى:25]، وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 17، 18] الآيةَ، قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك، فقالوا لي: “كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب”.

وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء: 48]، وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119]، وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا*  يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا*  إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 68 – 70]، وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] وقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْ} [مريم: 60]، قال – تعالى – {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ* وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }[الشورى: 25، 26]، وقال سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النُّور: 31]، فَكُلُّ تائبٍ مُفْلِحٌ ولا يكونُ مُفْلِحًا إلا مَنْ فَعَلَ ما أُمِرَ به وتَرَكَ ما نُهِيَ عنه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “التائب من الذنب، كمن لا ذنب له”؛ رواه ابن ماجه، روى الإمام أحمد والترمذيُّ وابنُ ماجه والحاكمُ، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ ابْنِ آدَمَ خطَّاء، وخَيْرُ الخطَّائين التَّوَّابون)).

روى الترمذي عن أنسِ بْنِ مالكٍ قال: سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((قال اللهُ تبارك وتعالى: يا ابْنَ آدَمَ إنَّك ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَنِي غفرتُ لك على ما كان فيكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدَمَ لو بلغتْ ذُنُوبُك عَنانَ السَّماء ثمَّ اسْتَغْفرتَنِي غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابْنَ آدَمَ إنَّك لو أتيتَنِي بقراب الأرْضِ خطايا ثُمَّ لقيتَنِي لا تُشْرِكُ بي شيئًا لأتيتُك بقرابِها مغفرة)).

وأخرج الإمامُ أحمد (13081) عن أنس – رضي الله عنْهُ – قال: سَمِعْتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلَّم – يقول: ((والذي نفسي بيده – أو قال: والذي نفسُ مُحمَّد بيده – لو أخطأتُم حتَّى تَملأَ خطاياكم ما بيْنَ السماءِ والأَرْضِ ثُمَّ استغفرْتُم اللَّه – عزَّ وجلَّ – لَغَفَرَ لكم، والذي نفسُ مُحمَّد بيده – أو والذي نفسي بيده – لو لَمْ تُخْطِئُوا لَجاء اللهُ – عزَّ وجلَّ – بِقَومٍ يُخْطِئون ثُم يَستغفرون اللهَ فيَغْفِر لَهم)).

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي في تفسيره (1/ 565-567): “ظاهر هذه النصوص يدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا، واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله توبته، كما يقطع، بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاما صحيحا، وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع”. اهـ.

وجاء في “الدرر السنية في الأجوبة النجدية” (7/ 522): “فتقبل التوبة من كل ذنب لتائب منه من غير استثناء شيء من الذنوب، كما دل على ذلك القرآن والحديث، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ما لم يعاين التائب الملَك، وقيل: ما دام مكلفاً; وقيل ما لم يغرغر – أي تبلغ روحه حلقومه – ولكنه أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته أنه لا يعذب من تاب، وقد كتب على نفسه الرحمة، فلا يسع العباد إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار، أو يدخل به الجنة“. اهـ.

 : (16/ 58) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في “جموع الفتاوى

“فالتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش، وإذا كانت كذلك كائنة فإن العبد إنما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمن خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يعد إلى الذنب، فهذه التوبة النصوح وهي واجبة بما أمر الله تعالى،

ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضا، ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يُصرَّ؛ بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله يحب العبد المفتن التواب”، وفي حديث آخر: “لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار”، وفي حديث آخر: “ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة”. اهـ.

والحاصل أن سبيل التوبة مفتوح دائمًا لكل من قصده، وفَّر إليه، وجد في الهرب إليه منطرحًا على بابه متضرعًا متذللاً، خاشعا باكيًا آسفاً، متذكرًا عطف الله سبحانه وبره ولطفه ورحمته ورأفته وإحسانه وجوده وكرمه مع غناه وقدرته.

قال ابن القيم في “مدارج السالكين“: ” التوبةُ هي حقيقةُ دين الإسلام، والدِّينُ كلُّه داخلٌ في مُسمَّى التَّوبة، وبِهذا استحقَّ التَّائبُ أن يكونَ حبيبَ اللَّه؛ فإنَّ الله يُحِبُّ التَّوابين ويُحب المتطهِّرين، ويدخل في مُسمَّاها الإسلامُ والإيمان والإحسان، وتتناول جَميعَ المقامات، ولهذا كانت غايةَ كلِّ مُؤمن وبدايةَ الأمر وخاتمتَه، وهي الغايةُ التي وجد لأجلها الخَلْقُ والأمر، والتَّوحيد جزء منها، بل هو جُزْؤُها الأعظمُ الذي عليه بناؤُها، ولم يَجعلِ الله تعالَى محبَّته للتَّوَّابين إلا وهُم خواصُّ الخَلْقِ لدَيْهِ”. اهـ.

أما لقنوط من رحمة فهو من المهالك فاخذره؛ لأنه محض سوء ظن بالله، وجهل بسعة رحمته التي كتبها على نفسه، ووسعت كل شيء؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي”، وفي رواية عند البخاري: “إن رحمتي سبقت غضبي”، وقد حذر الله عباده من القنوط؛ فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، فالقنوط من رحمة الله تنقيص لكرم الله المطلق ورحمته،  وتكذيب البشرى، وكل ذلك مناف لكمال التوحيد؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53].

فالمؤمن الحق يسير إلى الله بين الخوف والرجاء؛ بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله ينافيان التوحيد؛ قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99].

هذا؛ ومن أعظم ما يعينك على التوبة والصبر عليها الإكثار من فعل الصالحات، فأبواب الخير كثيرة جدًا.

وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية أبواب الخير التي يدفع الله بها الذنب؛ فقال في –”مجموع الفتاوى”(10/45)-: “والمُؤْمِنُ إذا فعل سيِّئةً فإِن عُقُوبتها تندفِعُ عنهُ بعشرةِ أسْبابٍ: أنْ يتُوب فيتُوبُ اللهُ عليْهِ؛ فإِنَّ التائِب مِن الذنْبِ كمنْ لا ذنْب لهُ، أو يسْتغْفِر فيغْفرُ لهُ أوْ يعْمل حسناتٍ تَمْحُوها فإِن الحسناتِ يُذْهِبْن السيِّئاتِ، أوْ يدْعُو لهُ إخْوانُهُ المُؤْمِنُون ويسْتغْفِرُون لهُ حيًّا وميِّتًا، أوْ يُهْدُون لهُ مِنْ ثوابِ أعْمالِهِمْ ما ينْفعُهُ اللهُ بِهِ، أوْ يشْفعُ فِيهِ نبِيُّهُ مُحمدٌ – صلى اللهُ عليْهِ وسلم -، أوْ يبْتلِيهِ اللهُ تعالى فِي الدُّنْيا بِمصائِبَ تُكفِّرُ عنْهُ أوْ يبْتلِيهِ في البرْزخِ بِالصعْقةِ فيُكفَّرُ بِها عنْهُ، أوْ يبْتلِيهِ في عرصاتِ القِيامةِ مِنْ أهْوالِها بِما يُكفِّرُ عنْهُ، أوْ يرْحمُهُ أرْحمُ الراحِمِين، فمَنْ أخْطأتْهُ هذِهِ العَشَرةُ فلا يلُومنَّ إلا نفْسَهُ؛ كما قال تعالى فِيما يرْوِي عنْهُ رسُولُهُ – صلى اللهُ عليْهِ وسلم -: ((يا عِبادِي إنَّما هِيَ أَعْمالُكُمْ أُحْصِيها لكُمْ ثُمَّ أُوفِيكُمْ إيَّاهَا فمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ))”. اهـ. والله أعلم


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

حكم المسح على الخفين الخفيفتين إذا لبس على غير وضوء – خالد عبد المنعم الرفاعي

منذ حوالي ساعة السؤال: ما حكم لبس الخفين الخفيفتين دون الوضوء والمسح عليهم الإجابة: الحمد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *